18 كانون الأول.. كل عام وأنتم مسكونون بالجمال

محمد زايغ

0 1٬416

كيف يستطيع الإنسان أن يُقاوم جمال هذه اللغة ومنطقها السليم، وسحرها الفريد؟ فجيران العرب أنفسهم في البلدان التي فتحوها سقطوا صَرْعَى سحر تلك اللغة 

المستشرقة الألمانية زيغرد هونكه

جميل أن يسقط المرء صريعًا أمام سحر الجمال كما حدث مع أبولو أمام دافني، وسيغفريد أمام أوديت، ومارك أنطوني أمام كليوباترا، والمجنون أمام ليلى العامرية، فهذا أرقى أنواع السقوط الذي عرفه الإنسان منذ أحسّ بأن عينه تنفعل مع الألوان المتناسقة، وأذنه تطرب إلى غناء الطبيعة، وروحه تذوب في عينين ناعمتين كما تذوب حبة السكر في كأس شاي دافئ.

والأجمل من ذلك هو ما حصل مع جيران العرب كما تقول هونكه، فقد استطاعت لغتنا العربية بخِلابتها أن توقعهم في شِراك الشغف بها، وأن تجعلهم يتقربون إليها ويخطبون ودها، ويرسلون إليها برقيات إعجابهم كل مساء. وقد بادلت هذه اللغة المتحضرة جيرانها الودَّ والاحترام، فزارتهم وسألت عن أحوالهم وأخبارهم، وجلبت لأولادهم الحلوى والهدايا والشعر الجميل، ورشّت على ثيابهم نفحاتٍ من عطرها، وتركت في ألسنتهم آثارًا من موسيقاها، كما تترك المرأة الجميلة لون عينيها في عيون أبنائها. جربوا أن تستمعوا إلى اللغة الفارسية والتركية والإسبانية، ستشعرون بخفة الطرب، وبرغبة كبيرة في الرقص، وستطلبون من متحدثها ألا يتوقف وأن يتابع العزف بالحروف والكلمات.

روى لنا أستاذنا عيسى العاكوب حفظه الله ذات مرة قصة كتبها سعدي الشيرازي، تقول القصة إن رجلا دخل إلى الحمّام ليستحمّ، فمدَّ يده إلى قطعة من الطين (البيلون) واشتمَّها، فإذا هي طيبة، فسألها من أين لكِ هذه الرائحة؟ فقالت: جاورت الوردَ مدة فأخذت منه رائحته. هذا حال من سكن بجوار اللغة المشرفة، فما حالنا نحن الذين نسكن فيها ونعيش معها في بيت واحد، ونفكر بها وننفعل ونحب ونكره ونفرح ونتألم، إن علاقتنا بهذا الكائن المقدس تجاوزت حدَّ السحر والحب، وأصبحنا مرتبطين به كما ترتبط الكلمة بالشفة، وكما ترتبط العين بالجفن.

يفترض بي، ونحن نمر بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، أن أتحدث عنها وأن أسرد مميزاتها وخصائصها، وأن أكون موضوعيا مبتعدا عن الحلم والخيال، ولكن كيف يمكننا أن نكون كذلك مع الأشياء التي نحبها ونهيم بها إلى حدّ الجنون، هل يمكن أن أعبر لامرأة أحببتها بعيدا عن الحلم؟ إنني لا أكتفي بالقول لها: إن فمك جميل. بل لا بد من القول لها: أشفقُ كثيرًا على فمك، لأنه لا يستطيع أن يقبِّلَ نفسه! بهذا التعبير نقدر الأشياء التي نحبها، وشكراً للغة العظيمة التي أعطتنا الفرصة لذلك. فليعذرني الإخوة في (حبر) عندما أعبر بجنون عما أحب.

حينما أراد الله عز وجل أن يؤيد النبي صلى الله عليه وسلم بمعجزة تعيد الإنسان إلى فطرته وتقنع الذهن البشري بفكرة التوحيد بدأ بتربية الذهن العربي وتهذيبه على استخدام اللغة على نحو غير معهود، يصل إلى حد السحر والدهشة، فأصبح للغة تعريف جديد يتخطى حدود التواصل، وإذ ذاك كانت المعجزة الأخيرة هي التعبير بالجمال، فلم يحي النبي الموتى ولم يمشِ على الماء، ولم يحول رمال الصحراء إلى ذهب، بل قدَّم الكلمة الجميلة البليغة التي أذهلت أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، وإن اختيار اللغة العربية لحملِ معاني القرآن وتوجيهاته دليل على أن سائر اللغات قاصرة عن اللسان العربي وواقعة دونه كما يقول ابن فارس، فمن مالَ إلى هذه اللغة وأحبها وتأثر بها كان دليلا على ارتقاء نفسه وفكره وقدرته على فهم حقيقة الكون كله.

إن هذا التفضيل لم أتوصل إليه وحدي لدوافع دينية أو عاطفية أو قومية، فمعروف أن العربية أوسع اللغات وأغزرها مادة وأقدرها على التعبير الدقيق، وهي الوحيدة التي حافظت على خصائصها الصوتية والصرفية والمعجمية، لأنها صنعت على عين الله، وستبقى في رعايته، كما أنها تميزت بالاشتقاق والتعريب والنحت والاشتراك والترادف..، والأهم من ذلك هو أن هذه اللغة العجيبة قد بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية كما يقول العقاد في كتابه (اللغة الشاعرة)، فهي في جملتها فن منظوم متسق الأوزان والأصوات، فمن ناحية الحروف نجد أنها وافية في المخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية، وتستخدم جهاز النطق الحي أحسن استخدام، ولذلك فإننا شعب يلحّن بالكلمات كما يرسم بها وينحت.

ومن مميزات العربية الكبرى ظاهرة الإعراب التي تشمل أقسام الكلام العربي، فالحركات والسكنات فيها تجرى مجرى الأصوات الموسيقية، وتعطي اللغة مزايا كثير منها قابلية التقديم والتأخير.

من أجل ذلك كله كانت التربية على تعلم اللغة العربية وحبها تربيةً على حب الله ورسوله، وعلى تقدير الجمال والرقي والاحترام والذوق الرفيع، وقد أدرك الصحابة والتابعون هذه الحقيقة، فقال عمر بن الخطاب: ” تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها من دينِكم” وروي عن بعض السلف قوله: “عليكم بالعربية فإنها المروءة الظاهرة”. وأوجب ابن تيمية تعلمها لأنها من الدين. فلا غرابة أن نرى اليوم فساد الدين والذوق والانحطاط الفكري والفني والتراجع العلمي بسبب عدم اهتمام العرب بلغتهم ودعوتهم إلى حصرها في المكتبات والمساجد، وتعلقهم باللهجات العامية المحلية. كيف يمكننا أن نتخيل أن هناك من يتجنب الجمال أو يشنّ حربا عليه، ويدعو إلى إحراق ما كتبه جرير والبحتري والمتنبي وأبو تمام، وكسر جميع الآلات التي تعزف موسيقا شتراوس وتشايكوفسكي وشوبان، ومحو جميع لوحات فان غوخ وبيكاسو لأنها غير مفهومة لديهم؟

كم هو مؤلم أن نشاهد أبناء يشتمون أمهم ويشعرون بالدونية عند ذكرها، حتى آل بهم الحال إلى وضعها في مأوى العجزة بحجة أنها هرمت ولا تستطيع مجاراة التطور الحضاري الذي يعيشونه. هذه الأم التي أهرقت ماء عينيها من أجل راحة أولادها تجلس وحدها، وتأكل وحدها، وتبكي في آخر الليل وحدها.

أكثر العرب اليوم يعيشون ذات العقوق تجاه لغتهم الأم، فقرروا إرسالها إلى مأوى العجزة وهم يرددون {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، ثم ركنوا إلى العامية، فأصبحت الهوية مهددة والثقافة مهددة، والجمال مهدداً، وأصبح التنافر واقعًا في الألسنة والقلوب.

يبدو أننا بحاجة إلى أن نسقط صرعى في سحر لغتنا كما فعل جيراننا من قبل، لنشعر بقيمتنا وقيمة لغتنا، وإلا فسنسقط صرعى على أقدام القبح والذوق الرديء.

 وكل عام وأنتم مسكونون بلغة الشعر والجمال.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط