المثقف والهوية والتغيير

أحمد وديع العبسي

0 2٬096

للمثقف دور أساسي في عملية التغيير كونه حاملاً للوعي والهوية، وصاحب القضية التي ينافح عنها من أجل أن تترسخ في المجتمع، فهو وإن كان يحمل هوية المجتمع وتراثه، لكنه لا يخضع له، إنما يعمل على تحقيق التغيير ليستمر المجتمع في الحياة ولا يتحول لحالة خاملة.

لقد تمّ التعامل مع الثقافة والمثقف في العقود الأخيرة على أنهما حالة ساكنة، أقرب للخمول والتحجر، ولم تستطع أن تواكب حركية المجتمع الذي ينبغي أن تكون متقدمة عليه، فتم اختصارها بحالة أدبية تختزل الموروث الحضاري والمعرفي وتحاول تفسير الهوية في بعدها النخبوي، وظهر المثقف كإنسان بعيد عن مجتمعه بمعطف مهترئ وجريدة وبعض الكتب في يده للدلالة على الاستغراق الفكري الذي يسكن زاوية مهجورة في المقاهي ويتكلم بلغة لا يفهمها الناس ويستخدم مصطلحات فلسفية معقدة، ويقرأ شيئًا من الشعر الإنكليزي ويشرب قهوة إيطالية وشايًا بلدية عتيقة ليمازج في كينونته شخصية عالمية كما يدعي.

ظهر المثقف صوفيًا في العصور الوسطى، يحاول أن يسقط على نفسه هالات من القداسة ويدعي أن له طريقة في الحياة من الصعب إدراكها للبسطاء، ذلك أن عالم الخواص (المثقفين) غير متاح للعامة.

هذه الصورة جعلت التعامل مع الحالة الثقافية والمثقفين معطلين لأي حركية أو نهضة أو تغيير يقوم به المجتمع، لأنهم غارقين في أمكنة لا تشبه المجتمع ومتعالية عليه، وتتهمه دائمًا بالقصور تجاهها.

وصار طرح تغيير الثقافة كأساس لتغيير المجتمع طرحًا يثير السخرية، فالأدوات الساكنة التي سيطرت على الثقافة جعلتها غير قادرة على التحرك في محيطها الاجتماعي، وجعلت من المثقف حالة كاريكاتورية تثير الشفقة والضحك، ولم يتم تفسير السلوكيات الاجتماعية على أنها حالة ثقافية بقدر ما تم تفسيرها من خلال الجانب الأخلاقي، المحكوم بأدوات الإنتاج، وضغوطات الأنظمة السياسية.

وراح المجتمع يبحث عن التغيير بالاعتماد على أدوات أكثر مرونة وعملية ممَّا جعله ينفصل عن السياق المعرفي الثقافي والهوية الأصيلة له، لأن حواملها الأساسية قد توقفت وتصلبت بعيدًا عن حاجات المجتمع وحيوته، وبالتالي انتقل المجتمع ليلبي فقط ما يحتاجه ليعيش بعيدًا عن الامتداد الحضاري القادر على الإنتاج والابتكار، لتصبح حركيّته مجرد تطبيقات تشغيلية، قادرة على تكديس المنتجات بدون فائدة، في صورة مشوهة عن الثورة الصناعية دون تلبية احتياجات السوق.

اختفت هنا القدرة على صناعة النهضة والتغيير لمصلحة بناء مهارات تشغيلية قادرة فقط على تشغيل المسارات الإنتاجية المتاحة أو المستوردة.

إن العمل على إعادة الاهتمام بدور الثقافة ربما يمثل إحدى أهم محركات التغيير والنهضة القادر على توليد القيم اللازمة للنجاح والاستمرارية، وهو عمل يقع العبء الأكبر فيه على المثقف كونه الذي يحفظ سجلات السلوك الحضاري ويعمل على تغييرها وتطويرها بما يلائم فهمه لواقعه المتجدد والمتغير، وليس الانزواء بهذه السلوكيات بعيدًا عن مجتمعه ليبقى المجتمع غارقًا في الماضي أو يعيش في غربة مستوردة.

 

المدير العام | أحمد وديع العبسي

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط