الشعبوية والنخبوية .. وخيارات الجماهير

أحمد وديع العبسي

0 881

 

يُستعمل تعبير «شعبويّ» بمعنى مناهضة «المؤسّسة» و «النخبة»، ويعبر بشكل أو بآخر على فقدان ثقة الناس بالنخبة وتململهم منها ومن أساليبها المتعالية عليهم في الحياة، وتعبر الشعبوية عن غضب عارم وإحباط عند الجماهير تجاه مؤسساتها ونخبها التي بدلاً من الاستجابة لهم تزيد من عزلتهم ومن تحييدهم عن الشأن العام لأنه “غير متاح للجميع ويحتاج للمختصين والخبراء” كما يزعم النخب، ممَّا يورث الناس تذمراً كبيراً قد يتفجر على شكل ثورة أو يتحول لسيطرة العامة على المؤسسات وجعلها رهينة إحباطهم وانفعالاتهم الآنية التي قد تسير بالبلاد إلى دوامة من السقوط لا تدركها الجماهير إلا في وقت متأخر جداً، لأنها تحظى في البداية بفوائد ملموسة وسريعة.

إن ما يدمر النخبة يقارب ما يدمر التيار الشعبوي، الفساد الذي يجعل الأولى منفصلة عن الجماهير، والجهل الذي يجعل الثانية تسير نحو الهاوية، وإن إيجاد مكان في المنتصف أثبتت الديمقراطيات الكبرى التي تترنح تحت ضربات التيار الشعبوي أنه أمر ليس سهلاً، وإيجاد التمازج بين التيارين يحتاج إلى مراقبة دائمة وعمل دؤوب، وإشراك التيارين في الحكم بشكل دائم. والذي دائماً ما يكون مستحيلاً عند تدخل عوامل المصلحة إلى جانب التيار الحاكم أيّا كان شكله، فعمله الدؤوب الحفاظ على مكانته، ما يجعله يسور طبقات الحكم ومؤسساته بنمطيته التي يستطيع العمل داخلها بأريحية، وليس بديناميكية قادرة على التغير والتفاعل مع الظروف.

يبدو أن الجماهير لا يمكن أن تتعلم من الدروس السابقة إطلاقاً، وأصوات النجوم الشعبويين مرتفعة لتقول دائماً إنها ستشكل تياراً مختلفاً وستحقق مصالح دائمة للناس، لن تسمح بها للنخبة بالتحكم في كل شيء، وكذلك النخبة تبقى معتدة بقوتها وقدرتها على المراوغة وخداع الناس من أجل مصالحها حتى يتم نخرها من الداخل فتسقط دفعة واحدة بدون حراك، لأنها لا ترغب في أن تحفظ مصالح الناس إلى جانب مصالحها، أو يبدو بالنسبة إليها هذا الأمر مستحيلاً أو صعباً، ولا ينسجم مع الفرصة التي يجب أن يتم انتهازها بأفضل شكل ممكن لأنها قد لا تعود مرة أخرى.

إن ما يدمر النخبة يقارب ما يدمر التيار الشعبوي، الفساد الذي يجعل الأولى منفصلة عن الجماهير، والجهل الذي يجعل الثانية تسير نحو الهاوية

إن الانتهازية للأسف هي التي تسيطر على عقلية الطبقتين، أو لنقل على عقلية الصفوة في الطبقتين لكيلا نعيد استخدام مصطلح النخبة، هذه الانتهازية تجعل العمل خالياً من القيم ومتماهياً فقط مع المصالح المؤقتة للمجموعة التي تصل للحكم أو للسيطرة أو لقيادة المؤسسات دون أن تهتم لمصالح الناس أو مصالح بقائها الطويل (غير المضمون فعلياً)، لأن التأسيس لنوع من مؤسسات الحكم المنضبطة بقيم حقيقية تجاور بين مصالح الفئات الحاكمة وقوة استمرارها ومصالح الجماهير أمر يحتاج وقتاً طويلاً، وهذا الوقت مملوء عادةً بالضربات التي توجه للمجموعة المسيطرة على الحكم، فهي لا تمتلك ترف الوقت المريح لكي تعمل من أجل مجد الوطن وأبنائه، وتكون الحلول السريعة القائمة على الدعاية للجماهير ورشوتها، وبيع الشعارات هي السبيل الأقصر والأكثر ضمانة ريثما يستتب الأمر نهائياً، عندها إما أن تتابع في هذا السلوك التصاعدي لتصل إلى الاستبداد الكامل، وإما أن تعمل على بناء المنظومة التي حلمت بها في بنيتها الفكرية وشعاراتها التي أغرت بها الجماهير لتحصل على ثقتهم.

إنَّ التيار الشعبوي وصل إلى السلطة أثناء الثورة الاشتراكية وحركات العمال التي تبيَّن زيفها بأكبر استبداد قام باسم الجماهير في روسيا وألمانيا والصين، واليوم يعيد نفسه مع تصاعد اليمين في الولايات المتحدة وأوروبا، ليعلن إعادة إنتاج الشعبوية من جديد داخل الكيانات الديمقراطية التي لم تحفظ أمام الجماهير سوى مصالح النخبة التي تحالفت مع بعضها لتجيير الجماهير لإرادتها الخاصة. وصارت الانتخابات هي لعبة الأقوياء فقط، لعبة إعادة تموضع المصالح والمال بين الشركاء والمتنافسين في كل مرة، ليكون على الجماهير أن تختار أهون الشرور بدلاً من أن تختار من يمثل مصالحها بصدق.

إنَّ هذه الحالة والخيبة التي تصحو عليها جماهير الديمقراطيات الكبرى في العالم جعلت المراهنة على إعادة إنتاج الشعبوية أمراً مستساغاً، خاصة وأنَّه في أسوأ حالته يندرج ضمن خيارات أهون الشرور، حيث سيطرت قوَّة النخبة على العملية الديمقراطية في الفترة الماضية، ولا بأس من إعادة تجريب الصفوة الشعبوية التي أفرزتها الجماهير من داخلها مرة أخرى داخل المؤسسات الديمقراطية التي تشعرهم بالأمان تجاه التغول أو الاستبداد

ولكن ربما ما لا تدركه هذ الجماهير أنَّ التيار الشعبوي من الصعب جداً إزاحته إذا ما تمكنت له السلطة، لأنَّه يعتمد على اندفاع وحماس الطبقات المسحوقة التي لا تملك شيئاً تخسره حقيقة.

عندما غرَّد ترامب أثناء ترشحه بأنَّه يحب غير المتعلمين كان يعي ما يفعل تجاه الفئة الأكثر حماسة في المجتمع، والأكثر شعوراً بالتهميش، التي اندفعت لتصنع لنفسها كياناً بانتخابه يشعرها بأنَّها قد وصلت إلى السلطة لأول مرة، وبأنَّ حراكها صار مؤثراً، بل في أعلى درجات التأثير.

لقد وفَّرت مواقع التواصل الاجتماعي أرضاً خصبة جداً لتنمو فيها صفوة الشعبويين بسرعة ويصيروا هم النخبة الأولى في المجتمع متجاوزين صفات النخبوي القديم، فهم يمثلون الجماهير بكل ما يفعلونه، وفي الوقت نفسه لا يخفى تأثيرهم على مختلف طبقات المجتمع، لتصير النخبة القديمة مجرد طبقة منزوية في المجتمع تعتد بتُراثها ومعرفتها ونمطها الخاص في الحياة دون أن يكترث لها أحد، ويزداد بعدها عن الناس أكثر فأكثر.

إنَّ ما تحتاجه الجماهير في الحقيقة ليس أن تدير هي دفة الحكم، وأنما تحتاج نخباً تثق بها، قادرة على تمثيلها تمثيلاً جيداً دون إقصاء، ودون أن يتم حصرها في خيارات محدودة أغلبها تضر بمصالحها وتحافظ فقط على مصالح المجموعات المسيطرة، ولكنَّها في كلِّ مرة تقع فريسة الدعاية وتكتشف أنَّ الأمر مختلف عمَّا تمَّ الترويج له أثناء الانتخابات، وتوالي الخيبات يقودها إلى الانجراف وراء التطرف أو تجربة التيار اللاواعي، لأنَّه يمتلك خطاباً يشبهها، وينطلق عن مخاوفها ويسدد اللكمات لأولئك الذين قاموا بعمليات الخداع على مدى السنوات الماضية.

إنَّ تحالف النخبة التقليدية مع النظام الحاكم في الشرق جعل العداء للنخبة مضاعفاً عمَّا هو عليه في بقية بلدان العالم، فهي ليست منفصلة عن الجماهير فحسب، بل وتعمل ضدها من أجل مصلحة ضئيلة جداً ومحدودة جداً، وتجعل من نفسها حصاناً تمطيه الأنظمة الفاسدة لترسخ حكمها وإعادة إنتاج نفسها كأنظمة تُعبر عن تطلعات شعوبها التي من المفترض أنَّها مُمثلة من هذه النخبة.

بينما مثَّلت الشعبوية، حالة الجماهير بوعيها الطفولي ونقائها الأول، بحماسها واندفاعها وثوراتها الجامحة، هذه الجماهير التي تريد أن ترى في الحكم أشخاصاً يشبهونها حتى بحماقتهم، وهذا ما أتقن العزف عليه نظام كالنظام المصري الحالي، ولكن على آلات عسكرية وأوركسترا يقودها الجيش وقوى الأمن في استنساخ جديد للتجربة اللينينية. (الاعتماد على القوة والشعب ثم استعباد الثاني).

الثورات اليوم هي ثورات ضد النخب، ضد الطريقة الاستبدادية التي وصل إليها العالم، ثورات ضد الأقلية من قبل الأكثريات المهمشة، والنخبة هي إحدى الأقليات التي بدأت الشعوب تكره وجودها سواء في أنظمة الحكم التقليدية التي تماهت مع الاستبداد حتى خاضت الحروب ضد شعوبها، أو تلك الأنظمة التي أتقنت لعبة الديمقراطية لتجعل الشعب يبدو كالمعتوه وهو ينتخب جلاديه أو أهون الشرور في كل مرة.

ستجعل الشعوب من الديمقراطية أداة لتدمير كل شيء انتقاماً، عندما تُعطي صوتها للجحيم من أجل الفكاك والتخلص من القوى التي تتحكم بمصيرها

إنَّ هذا العيب في الديمقراطية بحاجة إلى علاج، ولا يمكن للديمقراطية أن تستمر طويلاً وهي تقع ضمن نطاق السيطرة، لأنَّها مع الوقت ستغدو أداة مفرغة من محتواها تماماً، وستعيد الشعور للناس بأنَّ ملكيات العصور الوسطى ما زالت قائمة، ولم تتغير حقيقة إلا طريقتها في الحكم، لذلك ستجعل الشعوب من الديمقراطية أداة لتدمير كل شيء انتقاماً، عندما تُعطي صوتها للجحيم من أجل الفكاك والتخلص من القوى التي تتحكم بمصيرها، وهو ما بدأنا برؤيته بصعود اليمين المتطرف في مختلف دول العالم بدءاً من ترامب في أكبر الديمقراطيات وصولاً إلى بريطانيا وفرنسا، وغيرها من الدول.

وهذا يُحتم على النخبة إعادة صناعة نفسها بالكامل، وليس إعادة تموضع أو تشكّل، لأنَّ وضعها الحالي صار مستفزاً للناس وغير مقبول في ظل ظهور قوى منافسة، عليها أن تُعيد صناعة نفسها ضمن التيار الشعبوي الجديد لكي تحميه من نفسه، وتكفَّ عن التعامل بعنصرية مستترة واستعلاء مع بقية طبقات الشعب بوصفها الفئة المختارة التي لا يستطيع أحد أن يقوم بما تقوم به.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط