هل لامست الأكبال الحديديّة عتبّة التدخّل لدينا؟

عفاف جقمور

0 743

عفاف جقمور

على صفحات الفيس بوك اعتلت الطفلة “نهلة” الترند الأكثر انتشارًا في صدمة مهولة بعد أن تم ربط الطفلة بسلاسل وحجزها داخل قفص حديد.

تباينت الآراء بعدها حول من يبرر فعلة الأب كونها مريضة عقليًا، وقد أساء التعامل مع حالتها في حال ثبت ذلك، وبين من ثارت حفيظته على إهانة الإنسان للإنسان بهذا الشكل، لا سيما من بينهم رابط الدم والمشاعر، كأبٍ وابنته.

 

الأمر بين الفريقين ليس اختلاف مواقف، فمعظمنا لن يوافق على ارتكاب هذا الإجرام بحق طفلة، وإن كانت مريضة حقّاً، فالإجرام مضاعف إذ إن المريض، لا سيّما العقلي والنفسي، يحتاج جهدًا وعناية خاصّة، رغم استبعاد هذا الخيار بالفيديو المنتشر لها، لكن طالما أنّ معظمنا يتبنّى ذلك الرّأي من شناعة الموقف، فما الذي دعا البعض لاتخاذ موقف حازم والبعض الآخر حاول إيجاد تبريرات لتلك الفعلة؟!

 

الاختلاف بينهم برأيي كان لفارق عتبة التدخل بينهما، و(عَتَبَة) كلمة يستخدمها الفيزيائيون للإشارة إلى الحدّ الأدنى من قدرة مادّة ما للتحمّل أو لنقل الطّاقة مثلاً، هناك إذًا فوارق بمجتمعنا بين العتبات الموجودة لدينا بين الحدود الأدنى من الاعتداءات بحق القريبين، لا سيّما الفئات الأضعف بينهم، النساء والأطفال والمرضى، هناك إذًا من يرى أذى في تلك الممارسات على مستوى اجتماعي وإن كانت بحدود الأسرة فقط، وهناك من يراها مشاكل فردية يمكن التغاضي والسّكوت عنها.

في الحقيقة تُصاغ القوانين في العالم كله عند تلك العتبات، متى يجب على الحكومة (السلطة التنفيذية) أن تتدخّل في سلوك الأفراد؟ ومتى تترك لهم ليواجهوا مصيرهم حسب اختياراتهم وظروفهم؟ القوانين الموجودة في بعض المجتمعات تُجمِعُ عتبات تدخّلها على حماية الفئات الضعيفة كالأطفال والنساء، لاسيما من عانين من تجارب طلاق أو وفاة زوج، الكبار في السنّ وذوي الإعاقة الجسديّة أو الذهنية، لكن في مجتمعات أخرى تكاد لا توجد قوانين تحمي هذه الفئات من تسلّط الفئات الأكثر امتلاكًا للقوّة بشكلها الطبيعي، فتكون العدالة في توزيع القدرات لاحقًا اختيارية.

 

منذ فترة وجيزة ظهر فيديو عن استخدام لحيوانات لتجريب منتجات التجميل؛ من حموض حارقة للجلد ومياه مجففة للعين، قامت عندها منظمات مدافعة عن حقوق الحيوان بدعوة لمقاطعة تلك الشركات، لا بد أنّها لامست عتبة التدخل لديها!

وافق البعض على متابعة تلك التجارب مع إنهائها بالقتل الرحيم، فرغم الآلام التي سيتعرض لها الأرانب إلا أنّها ستكون أفضل من تجربتها على البشر، قد لامست عتبةً أخرى لديهم من مصالح شخصية جعلتها تتبنّى رأيًا آخر وهي أن تُترك لمصيرها المؤلم ذاك!

اقرأ أيضاً: درعا تنتفض مجدداً بوجه الأسد: لا تنتخبوا الطاغية

عادت بنا صورة الفتاة المكبّلة بالسلاسل إلى صورة الطفل السوداني الجائع الذي شهق شهقاته الأخيرة أمام نسرٍ جائع ينتظر التهامه وعدسة مصورٍ ترصدهما، ذلك المشهد لم يستدعِ عتبة التدخّل لدى المصوّر حينها، لكنّ فظاعة الموقف أقضّت مضجعه لاحقًا فانتحر!

تعود بنا الصورة أيضًا لآلاف العبيد الذين قضوا أثناء مصارعاتٍ دمويّة تهدف إلى تسلية بعض الأغنياء لا أكثر، ولم تكن الدماء التي تسيل أثناء ذلك لتلامس عتبات التدخّل لأحدهم، بل إن نشوة رؤية المنتصر الأخير قد تفوقت لديهم!

 

الكثير من الحوادث والمواقف التي قد تصبح (فظيعة) في مجتمع ما، و (اعتياديّة) في مجتمع آخر، تتنوع المواقف بين امرأة تُهان وتُضرب إلى قطّط الحيّ وجرائهم الذين يعذبّون من قبل أطفالٍ متوحّشين، وما إن يفرغوا منهم حتى يلاحقوا من لديه إعاقة نفسيّة أو جسديّة بالحجر على مرأى رجال الحيّ ونسائهم، لعبة صراع الثيران أيضًا التي يستمر الثور فيها بصراع الهواء حتى تنهار قواه تحت ضرب السيوف.

 

عتبات التدخل لدينا هي ما يحدد مقدار شعورنا بالآخر، بالضعيف الذي لا يستطيع التعبير، والمتألّم الذي لا يجد من يسمعه، هي ما يحدّد القوانين التي علينا سنّها والمنطق الذي نحيا به.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

في الأنظمة الاستبدادية تتضاءل عتبة التدخل حتى تصبح بحدود حفظ معيشة الانسان بدلاً من حفظ كرامته، في بداية الثورة كان شبان كثر يقتلون برصاص حيّ على مرأى العالم، وكان هناك من يعيش بذات ظروفهم لكنّ دماءهم لم تلامس أي عتبة تدخل لديهم وفضّلوا المضيّ ببدهيات العيش “الله يظهر الحق ويطفيا بنوره”، عتبات التدخّل تلك قد تكون على فظاعتها فطريّة يحدّدها بقاء الروح في الجسد.

في كلّ قرار تتّخذه فكّر، ما هي عتبة التدخّل التي لامستها؟

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط