العلاقة بين توفر الحريات وحفظ الحياة جزء من ثقافة مستقرة في الفقه والقضاء والنظم الاجتماعية في العالم الإسلامي، خلاصتها:
“إذا أردت الحفاظ على حياتك عليك أن تساهم في حماية الحريات وتمكينها”.
في المقابل؛ يُعدُّ الاقتتال وسفك الدماء في مكان معين مؤشرًا قويًا على مأزق تعيشه الحريات، مأزق يعادل حجم الاقتتال القائم، فإن كان الاقتتال عامًا شاملاً فهناك مشكلة جوهرية في معالجة الحريات في هذه المنطقة.
نجد أصول هذا التفكير بالحريات داخل القرآن في سياق اجتماعي سياسي أكثر وضوحًا، ففي تساؤل الملائكة عن جدوى الحرية التي سينالها الإنسان تمّ طرح قضية الحرية في سياق الجماعة البشرية وعلاقة الناس ببعضهم: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (سورة البقرة).
صحيفة تكشف عن وثيقة حل خلافات بين قسد ونظام الأسد
فهمت الملائكة من الخبر الإلهي أن الكائن الجديد سيكون مختلفًا، لأنه كائن مختار ومستخلف حرّ بإمكانه فعل الخير والشر، وراحت تعرض قضية الحرية هكذا: “الحرية ستؤدي للفساد؛ لأنه بإمكان الحر أن يختار الفساد والصلاح وحفظ الحياة وسفك الدماء”.
جاء الجواب الإلهي بأن طرح الملائكة فيه “قصور في العلم” (الطبري وابن عطية).
هل الحرية هي السبب في الفساد وسفك الدماء؟ أم أن السبب تضييق الحرية وعدم تعميمها على الجميع؟
الطرح الملائكي يرى وجود الحريات هو المشكلة، والحل في إلغائها من أصل الخلق ليكون “آدم بلا حرية” ويكون مجتمع الآدميين كمجتمع الملائكة، أما القرآن فيعكس القضية ويقرر أن الحل هو إشاعة الحريات لجميع بني آدم، والمشكلة في إلغائها والتضييق عليها.
مشكلة الفساد والاقتتال سببها تقليص نطاق الحريات وحرمان فئات من الناس من التنعم بها، وليس تعميم الحرية على الآدميين؛ لأن الحرية إذا كانت شاملة لكل الناس فلن يحق لأحد أن يقتل بغير حق أو أن يُفسد، وأعظم تضييق للحريات قتل الأبرياء وحرمانهم من جذر الحرية وهو حرية الحياة، أو إفساد عيشهم بالاعتداء على أموالهم وملكياتهم وكرامتهم فيحرمهم من أساسيات الحرية وهو حريتهم في الملكية والتصرف والتعبير، هكذا انقلبت المشكلة الملائكية ومشت بمنطق معاكس أشار إليه القرآن.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
وهنا تنكشف بعض الحكمة أن سورة البقرة التي افتتحت بهذه القضايا ستتابع في سرد قوائم طويلة من الحريات العملية وضمانات حمايتها، ففيها نجد آية التدين الحر: ((لا إكراه في الدين))، وآيات تشريع القتال لمن قاتلنا وتحريم الاعتداء على من لم يقاتل: ((وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا))، وآيات عقوبة القاتل: ((ولكم في القصاص حياة))، وآيات التشاور بين الزوجين في إدارة الأسرة كفطام الطفل: ((فَإِنۡ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٖ مِّنۡهُمَا وَتَشَاوُرٖ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَاۗ))، وآيات مواجهة موسى لفرعون، ومواجهة طالوت للملك جالوت.
هكذا استقرت حرية آدم قبل خلقه، وأصبح “الأصل في بني آدم الحرية لأنهم أولاد آدم وحواء وقد كانا حرَّين” (السرخسي، والنووي، وابن عابدين).
خلاصة تنفيذية: (بقاء الجماعات يتعلق بتوفر الحريات).
ما يُمكن فهمه من القرآن أن الضامن لمواجهة الفساد وسفك الدماء هو تمكين الحريات بتشريعات وضمانات حقيقية وإشاعتها لجميع بني آدم.
هذه التشريعات والضمانات ستكون مدعومة بهداية ربانية قادمة من الدين، وقد ختمت قصة آدم وحواء بهذه الخلاصة: ((قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)).
كلما استطعنا أن نزرع بذور الحرية في أرجاء مجتمعاتنا المعاصرة فنحن نحمي مستقبلنا من فساد واقتتال ودماء داخل العائلة وفي الروضة والمدرسة والجامعة، وفي المسجد والمصنع وسوق العمل والشأن العام ومؤسسات المجتمع المدني..