التخلي عن رحيل الأسد! هل هو خيار ممكن؟!

أحمد وديع العبسي

1٬228

يخطر في بالي أن أبدأ المقال بتغطية مسبقة كما تفعل وسائل التواصل في بعض الأحيان تحت عبارة “قد يكون المحتوى صادماً أو مزعجاً هل تود المتابعة”، ولكن للأسف في المقالات لابدّ من ظهور العنوان، وبالتالي جزء من المحتوى غير المرغوب به يظهر عنوةً عنّا، حتى نحن الذين نكتب هذه النصوص، ولكن لا بأس من التحذير المسبق.

لا أحاول فيما سبق أن أصيغ مقدمة محفزّة، رغم أنني بحاجة إليها، ولكنني أحاول أن أمتص صدمة مسبقة، وأن أطلب من القارئ أن يتابع بروية وهدوء ويحاكم المقال ضمن معطياته التي سيتقدم بها، لا ضمن مواقف مسبقة مشحونة عاطفياً

لقد قضيت وقتاً طويلاً حتى وصلت إلى جرأة الكتابة عن هذه الفكرة، وجرأة التفكير بها بحرية تشبه تلك التي طالبنا بها وبذلنا من أجلها الدماء، فأنا أنتمي للناس الذين خاضوا غمار الثورة وفجروا الحرب في سبيل ما يؤمنون به، ودفعوا الدماء والذكريات والأماكن التي أحبوها بشدة في سبيل الحرية التي يحلمون بها، وفي سبيل الثورة كأداة آمنوا بجدواها حتى آخر اللحظات، وبعضهم ما زال …

ولكن هل نريد أن تنتصر الثورة أم أن تنتصر القيم التي كانت الثورة في سبيلها، وهل نريد أن نسترد الوطن أم أن نحقق الثأر، وهل نريد إسقاط النظام أم رحيل الأسد، أم أننا نريد كل هذا معاً القيم والثورة والوطن والثأر وإسقاط النظام ورحيل الأسد؟! هل يمكننا أن نرى هذه الأشياء متفرقة، أم أننا لا نراها إلا كتلة واحدة لا يستغني بعضها عن بعض، وهل هي ممكنة في هذا الحال أم أنها أصبحت صعبة المنال، وربّما مستحيلة؟!

هذه الأسئلة لا بدّ منها بين فترة وأخرى، علينا أن نعيد قراءة الأهداف والغايات التي نسعى لأجلها، علينا أن نعرف أنها ممكنة التحقق ضمن الظروف التي يجود بها الزمان كي لا يكون موتنا عبثاً ونضالنا هباءً وثورتنا حماقة.

في مصر استطاع النظام أن يلتف على مطالب الشعب، رحل مبارك وظنّ الملايين أن النظام سقط، ولكنه كان يتربص ويستعيد نفسه رويداً رويداً ليعاود فرض نفسه مرّة أخرى وبطريقة أكثر قسوة من ذي قبل، تبخرت الأحلام واندثرت الإرادة، ومات الثوار أو رحلوا، ما النتيجة؟ ببساطة لا شيء، صار مجرد التفكير بالثورة عبثاً لا يقوى عليه الجائعون الهائمون الضعفاء تحت سطوة الجلاد … وشعبنا ليس أفضل حالاً من شعب مصر، لا بنصفه الذي يعيش في مناطقنا الحرّة!!! ولا بنصفه الآخر الذي يموت تحت سطوة النظام.

في ليبيا، كان النظام شبيهاً إلى حدٍّ ما بنظام الأسد، قائم بغالبيته على شخص واحد، قُتل القذافي وانهار النظام في واحدة من أغنى دول أفريقيا والعالم، والنتيجة: سلاطين حرب وتقسيم للبلاد، وأزمات مستمرة، وحروب طائفيّة بين المذاهب فضلاً عن الطوائف، ونهب ثروة البلاد وخيراتها، وحرب أهلية مستمرة ودولة فاشلة.

في اليمن وتونس حكايات مشابهة، استطاع النظام فيها استعادة نفسه بأشكال جديدة، والاستبداد هو الاستبداد، والقمع هو القمع، ومن يدفع الثمن في كل مرّة هي الشعوب. الشعوب الضعيفة التي ضحت بكل شيء من أجل الحرية، فتم اغتيال حلمها، واستعبادها من جديد. حتى أصبحت دولنا الثائرة هي أكثر دول العالم استجداء للمساعدات والأكثر فقراً وعوزاً وفشلاً

هل يجب أن نتحدث عن تجربة المناطق المحررة، عن الاستبداد الجديد، وأمراء الحروب، وتحكّم الجيران، والجريمة المنظمة، والفساد الكبير، والظلم والمحسوبية، وإهانة الناس وفوضى السلاح، وعنتريات المدمنين من الجيش الوطني السوري!!! لنتفق أنه ليس شبيهاً بما يقوم به نظام الأسد، ولكنه ليس بعيداً عنه، فما يفعله هؤلاء الذين يحكمون مناطقنا، هو ما تتيحه لهم السلطة في هذه المناطق، وربما لو أتاحت السلطة لهم طغياناً أكبر، ربما! مارسوه، وربما كانوا أشدّ ظلماً واستبداداً وجريمة مما هم عليه الآن، ربما! … ولا نتجاهل وجود الشرفاء والمخلصين في إدارة هذه المناطق، كما كنا لا نتجاهل وجودهم من قبل، ففي كل مكان يبقى هناك من يخاف الله ويعمل في سبيل الحق، ويحفظ الأمانة.

هل يجب أن نكرر الحكاية لنقتنع بتغيير طريقة كفاحنا. وهل سنقوى على ذلك التغيير بعد أن نستنزف تماماً، ولقد شارفنا على ذلك؟ أم أننا يجب أن نبدأ اليوم، لنقتنص ما يمكن اقتناصه في هذه الأيام العصيبة، وقدّ تحوّل عنّا حتى أقرب الأصدقاء؟!

أعتقد أني امتلكتُ جواباً واحداً كنت أكرره لمدة أربع سنوات على الأقل، وسأكرره في السنوات القادمة، “كفى ثورة”، لنتوقف عن هذا الهراء الذي أصبح استنزافاً حتى لحبالنا الصوتية دون جدوى، لا يمكن أن نغيّر شيئاً بالاعتماد على الصراخ، علينا أن نغيّر هذه الأداة التي اهترأت ولم تعد قادرة على تحقيق المزيد، لقد كانت الثورة عظيمة يوم فتحت لنا أفق التغيير، وسمحت لنا بالحلم، وجعلتنا نسير أول الخطوات بثقة وكبرياء، ولكنها لم تعد صالحة للمتابعة، لم تعد كذلك منذ زمن، وليس العيب فيها، ولا فينا، إنما هذه سنّة الحياة، تتغير الظروف فتتغير أدواتها، هذا هو المنطق، هذا ما يمكن أن يجدي لمن يريد صناعة تغيير حقيقي، ولمن يريد استعادة الحرية لا استنزاف الوطن.

لم أكن أفكر بالخطوة التالية، كنت أعتقد أن التوقف عن الثورة سيفتح المجال واسعاً لخطوات كثيرة، سيفتح أفق الأفكار لكي تطير باتجاهات مختلفة، سيحرر الإرادة التي اعتقلناها نحن عندما أجبرناها على الفعل فقط في زنزانة الثورة، فكانت تصطدم بالجدران عبثاً وتعود وقد وهنت وتخضبت بالدماء في عبث آخر لا ينتهي ولا يعرف أحد جدواه وفائدته.

اليوم أريد أن أفكر بالخطوة التالية، وهي الخطاب، يجب أن نغيّر خطابنا، يجب أن نحدد ما نريده بوضوح، ويجب أن يكون ممكناً وذكياً، وأن لا نكرر أمام العالم المطالب التي ملّ من سماعها، يجب أن يشعر العالم حولنا بالتغيير، أن نقنعه بالاستماع لنا لأننا نريد شيئاً جديداً، مطالب جديدة تكون أكثر وعياً وأكثر إمكانية ومنطقية، وتسمح لنا بالسير خطوات أخرى في سبيل حريتنا، وأعتقد أنّ أول خطوات التغيير في الخطاب يجب أن تتمحور حول إسقاط رحيل الأسد من حساباتنا، لا لأن ذلك مستحيل، بل لأنه ببساطة لا يكفي، إنه ليس هدفاً، ما الذي سيتحقق إذا رحل الأسد وأعاد العالم تركيب النظام على شخص آخر أو مجموعة أخرى، وهل يمكن للأسد أن يبقى إذا سقط النظام، أو إذا تمّ تفكيكه؟!

لماذا نرهق أنفسنا بمطالب لا جدوى منها وتشكل استعصاء لأي عملية سياسية ممكنة، ثم إذا تحققت لن تغيّر شيئاً في المعادلة؟ هل يجب أن نستمر فقط بالصراخ، أم أنه علينا أن نأخذ زمام المبادرة تجاه خطوات عملية، مثل: المشاركة في السلطة، تفكيك الأجهزة الأمنية، العدالة الانتقالية، سحب سلطات رئيس الجمهورية لصالح المؤسسات، دخول المعارضة بحماية دولية كافية إلى دمشق، إعادة هيكلة الجيش والشرطة، كتابة الدستور، الانخراط في العملية السياسية بشكل مباشر … إلى ما هنالك من أفكار تركز على تغيير حقيقي في بنية النظام لا تغييرات شكلية لا طائل منها، ولا تستجيب إلا لحماسنا الثوري بينما تصنع لنا أعمدة المشانق وتوابيت الخلود دون أن نشعر بذلك ونحن سكارى بنشوة النصر المزيف.

لا أطلب تأييداً صارخاً لما أقول، حسبي أنني قلت، وهذه أمانة أحملها ككاتب في ظل حرب يخوضها أبناء قومي، ولكنني أطلب أن يفكر القارئ فيما أقول، أنه يعطيه مساحة ليتداوله بينه وبين نفسه أو أصحابه المقربين، أن نفكّر معاً بالتغيير حتى لو لم تعجبنا هذه الأفكار التي طرحتها، ولكن على الأقل أن لا نبقى متشبثين بالأوهام تحملنا إليها الأمنيات بأن تتحول إلى حقيقة يوماً ما، وهو ما لن يكون، لأن الصحارى لا تجود إلا بالسراب، يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا …

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط