الدين والسياسة والناس، كيف تتشكل السلطة

أحمد وديع العبسي

1٬761

لا شك أن للمفردات الثلاثة التي جاء بها العنوان (الدين – السياسة – الناس) الأثر الكبير والمهم في السلطة، ولكن من المهم أن نؤكد أنها لا تشكل بالضرورة عناصرها الأساسية، أو أضلاع المثلث الذي تتكون من السلطة، فالسلطة أو الحكم عموماً يرتكز على القوة، وعلى محركات القوة في هذه العناصر أو في غيرها، وما سيركز عليه هذا المقال هو تفاعل هذه العناصر في موقفها من السلطة، أو دور هذه العناصر في قضية الحكم عموماً …

ترى السياسة السلطة هدفاً رئيساً لكل النشاط الذي تقوم به، ولتقدير أهمية المجالات الحيوية التي تتحرك بها، فالسياسة وجدت من أجل الوصول إلى السلطة وإدارة الناس من خلالها، لذلك فهي تتعامل مع الدين كأحد الوسائل التي تؤمن لها الوصول للسلطة، ومع الناس كموضوع للسلطة وبنفس الوقت أداة للوصول إليها وللقيام بها ولممارستها، فالناس أكثر أهمية للسياسيين من الدين، والدين يكتسب أهميته السياسية من حجم التصاقه بالناس وحياتهم وقناعاتهم. طبعاً دون إغفال العناصر الأخرى (الاقتصاد – الإعلام – العلاقات …) التي ليست هي موضوع هذا المقال.

بينما يرى الناس السياسة كأداة لتحقيق مصالحهم، ويرون الدين كمحدد رئيسي لهذه المصالح عند المتدينين، وكعقبة في بعض الأحيان في وجه تلك المصالح عند غير المتدينين، ومن هنا جاءت الحاجة لفصل الدين عن السياسة لمحاولة رؤية مصالح الناس من منظار توافقي يمنع الخصومة بينهم، أو على الأقل يخرج الدين من دائرة التنافس السياسي

أمّا الدين فهو حاكم فعلي على سلوك اتباعه، وإلا فلا قيمة له، لأن الإيمان لا يتمثل في الأقوال والشعائر فقط، وإنما يمتد كشرائع تتحكم بمفاصل الحياة وتحدد سلوك الأفراد وتوجهاتهم بالحياة، وهو بالتالي يمارس سلطة مباشرة على أتباعه بإرادتهم الخالصة، قبل مسافة كبيرة من تشكل السياسة في حياتهم، لذلك فالدين لا يحاول أن يمارس السياسة للوصول للسلطة، لأنه أسبق منها بخطوات كبيرة في فرض سلطته على الأفراد والمجتمع، وهو بذلك أقرب إلى الناس وتكوينهم وتشكيل هويتهم.

لا يعني هذا أن الدين يتعارض مع السياسية أو يبتعد عنها، فالدين هو إدارة للناس والدنيا بأمر الله (المشرّع)، وهذه الإدارة سياسية في جزء منها من حيث اهتمامها بأصول الحكم والسلطة ولكنه سياسة غير قابلة للتفاوض، سياسة تستند إلى دساتير حتميّة ونافذة في نفوس المتدينين، وتُسهم في تشكّل قناعاتهم وهويتهم واعتقاداتهم وتوجهاتهم، لأن الدين هو أعمق ما يؤثر في الإنسان ويكاد يكون جزء من تكوينه البيولوجي، فضلاً عن كونه العنصر الأساسي في التكوين النفسي للأفراد والمجتمعات.

ما يهمني قوله هنا أن الدين لا يسعى نحو السياسة للوصول إلى السلطة، لأنه أسبق منها في الوصول إلى الناس، وهو يشكل هويتهم وثقافتهم ونظرتهم للحياة وللعالم بشكل عام، لذلك فإن مسألة حاكمية الدين لا يجب أن تشغل بال السياسيين، والفصل بين الدين والسياسة في أنظمة الحكم، أو في ممارسة السلطة ربما يكون هو الخيار الصحيح، لأن الدين موجود في المجتمع بشكل أكثر رسوخاً، حيث أنه من أهم العناصر التي تشكل المجتمع، وتصيغ هوية أفراده وانتماءاتهم العميقة، ومن المفترض أن مفاهيم السلطة تتشكل عبر العقد الاجتماعي بين الناس حاكمين ومحكومين، لذلك فإن وجود الدين كمصدر أساسي في العقد الاجتماعي هو أمر طبيعي تعكسه هوية الناس، لا مزاج السياسيين وانتماءاتهم الدينية.

إن وجود تيارات دينية تمارس السياسة باسم الدين هو مصادرة للدين وللفضاء الواسع الذي يفرضه كمعتقد حرّ ارتبط به الناس قبل تشكّل علاقتهم بالسياسة، كما أنه احتكار لفهم الدين وحصره بالطريقة التي يقررها رجال السلطة والحكم، وبالتالي فرض فهمهم للدين على الناس، لا الدين نفسه، وإذا سلمنا بأسبقية وجود الدين في حياة الناس، فمن العبث محاولة فرضه عليهم، لأن القناعات الدينية قناعات مؤسِسة، لا قناعات مستحدثة تدعو إليها السياسة والسلطة أو تفرضها على المجتمع.

فالدين في النهاية لا يحكم من خلال المؤسسات ولكنه يشكل الهوية ويؤسس للثقافة، والدعوة للدين هي مهمة المجتمع لا مهمة السياسيين، وإنما على السياسيين وعلى السلطة أن تحمي المساحة الحرة التي تسمح بتحرك الدعاة وعدم تقييد نشاطهم .. وهذا ما يجب الدفاع عنه. كما أن حماية هوية الناس هي مهمة أي سلطة، سواء كان أفرادها متدينون أم لا، لأن محاولة العبث بالهوية، هي اعتداء على المجتمع، ومحاولة لإعادة تشكيله، والعبث بثقافته، فالهوية بكافة عناصرها القومية والدينية والثقافية هي ما يميز مجتمع ما عن غيره من المجتمعات، وتشكل إحدى أساسات قيام الدولة، لذلك يجب لا يمكن أن تتهاون الشعوب مع من يحاول المساس بدينها الذي شكّل هويتها على مرّ العصور، وعند محاولة التفريط به ستحدث الصدامات بين السلطة والناس.

إن الاتجاهات السياسية الجديدة للسياسيين يجب أن تكون اتجاهات نحو فهم المجتمع وحمايته، وتلبية تطلعاته في الأمن والرفاه، لا اتجاهات دينية تحاول استغلال تدين الناس للوصول للسلطة ببرامج خاوية، وعليهم حماية مساحة الحرية التي كفلها الدين، لا التسلط على المجتمع باسمه، فالدين لا يهتم بالحكم ولكن يهتم بالناس، وبوصول من يمثل هويتهم إلى السلطة، ليحكم باسم الناس لا باسم الدين، لأن الحاكم يختاره الناس، ويستمد سلطته من اختيارهم، ولا يعيّنهُ الله (المشّرع) ولا يحصل على تفويض إلهي أو يستمد سلطته منه.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

سياسة الخصوصية وملفات تعريف الارتباط