منذ أيّام أُتيحت لي فرصة حضور واحدة من ورش العمل في الداخل السوري في منطقة إدلب، حيث تسوّق المنطقة على أنها منطقة متشددة أو متحفِّظة، تبعاً لمزاج الهيئات والمنظمات الدولية، التي قليلاً ما تأخذ طبيعة الناس وميولهم بعين الاعتبار، وغالباً ما تعتمد على معايير خارجية تخصّها، ليست حقيقية تماماً …
المهم، أعود لسياق الورشة التي عُقدت تحت عنوان (مشاركة المرأة في الشأن العام) ضمن مجموعة من الورش المتتابعة التي يتم فيها استضافة فئات متنوعة من المجتمعات المحلية لأخذ آرائهم وانطباعاتهم وملاحظاتهم حول القضية، ومعرفة مدى دعمهم أو عدم دعمهم لها، بالإضافة للاستماع لمقترحاتهم حول أولويتها والتحدّيات والتوصيات بشأنها …
الملفت في الورشة أنها كانت مخصصة للرجال، فيما عدا المشرفات على النشاط والتيسير (3 نساء حضوراً في القاعة و 2 عبر الانترنت) في مقابل 14 رجل في القاعة من مختلف التوجّهات، وصراحةً هذه شجاعة تحسب للسيدات المشرفات على الورشة، شجاعة في الطرح وفي المدافعة وفي النقاش، شجاعة تحتاجها المرأة السورية لكي تقتحم ميادين الشأن العام، وتقوم بدورها إلى جانب نفسها أولاً وإلى جانب الرجال، من أجل بناء مجتمع أكثر توازناً وحرية.
هذه المبادرة والشجاعة تحتاج احتضان ودعم لكي تستمر، وتحتاج أن تُمنح النساء في الداخل فرصة في السياقات الاجتماعية والسياسية والدولية التي تهتم بالقضية السورية ليكنّ شريكات فاعلات ومعبرات حقيقيات عن السوريات اللواتي يشاركونهنّ الهموم والرؤى، بدلاً من الاعتماد بشكل دائم على المهجّرات واللاجئات خارج البلاد، اللواتي في كثير من الأحيان لا يعشنَّ الهموم اللصيقة بالمرأة السورية داخل سورية، ولا يُحسنَّ غالباً التعبير عنها بمصداقية.
النقطة الثانية التي كانت ملفتة أيضاً، وربما مفاجئة لأولئك البعيدين عن السياق السوري في الداخل، هو الدعم الكبير وغير المتوقع من الحضور لهذه الخطوة، والمشاركة الفعالة في البحث عن جذور المشكلة والحلول التي امتلأت بها مداخلاتهم، والتي استمرت ساعة على الأقل بعد انتهاء الوقت المخصّص للورشة، مما يعطي انطباعاً بإحساس الحاضرين بأهمية دور المرأة شبه المفقود في السياق العام والحاجة له، والدور المميز الذي قامت به السيدات الحاضرات بالتعريف بقضيتهن بطريقة تستطيع جذب التأييد، لا اختلاق المناحرة والصراع، كما تفعل النسويات البعيدات عن سياق المجتمع السوري، واللواتي يقمن بالإساءة للمرأة السورية عبر تخيّلها في مجتمعات غربيّة لقيطة بلا أخلاق ولا قيم، ويردنّ تطبيق تلك الرؤية القاصرة على المجتمع السوري باسم حرية المرأة وحمايتها !!! …
تمّ الحديث عن كيفية اختيار المرأة دورها بحرية تامة في المجتمع، دون ضغوطات التنميط ودون وصاية النسويات والثقافة المستوردة من الخارج، بما يساهم في الاستجابة لحاجات العصر والمجتمع، وكانت الطروحات في هذه الأطر مذهلة ومتقدمة على كثير مما سمعته في ورش وندوات مشابهة خارج سورية.
تمّ الحديث أيضاً باعتراف من الحضور عن تقصير المجتمع وطابعه الذكوري الغالب، وعن قصور الأساليب التربوية وضرورة تطويرها لمساعدة المرأة، وعن أهمية تكرار هذه الندوات لما تضيفه من توعية تشاركية للمجتمع
كما تمّ الحديث أيضاً عن ضرورة وجود المرأة السورية المحافِظة في ميادين السياسة وصنع القرار، وضرورة تجاوز غيابها المتعمَّد عن هذه الميادين، ودعم وصولها اجتماعياً ودينيّاً وأخلاقياً، وأهمية أن تلتزم مؤسسات المجتمع المختلفة بهذا الدعم، وتُؤمن بهذه الضرورة.
بالإضافة للكثير مما يصعب سرده في هذا المقال، كما تمّ التطرّق إلى التحديات وسبل تذليلها، وضرورة قراءة تاريخ المرأة المسلمة ومواقفها وتجربتها بعين الواقع المعاصر وبعين المستقبل، وعدم التقوقع وراء فهم مجتزأ للتجربة العظيمة للمرأة المسلمة وتسطيحها ضمن قوالب متحجرة وغير قابلة للتجديد …
الكثير والكثير من الطروحات المهمة التي كان لي فرصة الاستماع والمشاركة بها في هذه الورشة في بقعة ربما هي الأكثر حرية والأكثر تعبيراً عن الإرادة في المنطقة وليس في سورية فحسب، لأن المناطق الجغرافية تقرأ بإرادة أهلها وطموحاتهم وشجاعتهم، ولا يتم قراءتها بمزاجية الداعمين أو بحسب القوى المسيطرة عليها، لأن الناس هم دائماً الأقوى في التعبير والأكثر قدرة على التغيير، ولا يمكن أن يتم اختزالهم بتصورات مسبقة، نحن دائماً في (مصطلحات) السياق الدولي ندعو للابتعاد عنها، ولكن هذا السياق يرتكب الإساءة من خلالها بحماقة مفرطة.
المرأة السورية لا تواجه فقط التحديات من السياق المحلي، الذي يثبت كل يوم أنه يحاول التخلص من مشاكله ويعترف بها ويحاول التغيير ويسعى للدعم، ولكنها تعاني من تحديات التنميط من السياقات التي تزعم دعمها!، وهي في الحقيقة تحاول قولبتها وجعلها في صراع مع مجتمعها وثقافتها وهويتها، فقط من أن أجل أن تشبه تلك السياقات النسوية، والتي لم تقدم للمرأة إلا مزيداً من التسليع والاستهلاك، هذه التحديات مع مجتمع الداعمين هي التحديات الأكبر التي على المرأة السورية أن تتجاوزها في معركتها للتعبير عن نفسها كامرأة سورية، لا تشبه أحداً إلا نفسها، ولا تعبر عمّا يريده منها الداعمون والسياقات الدولية، وإنما تعبر عمّا تريده هي بكل حرية واقتدار …