منظومة جديدة تؤسسها سورة الشورى تجعل الناس قادرين على حفظ الحريات وإدارة الاختلاف فيما بينهم دينيًا واجتماعيًا، وذلك في المقطع الأخير من الآية (15): ((اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ))، تتضمن الآية أربعة مبادئ جاءت متتالية دون حرف عطف، كأنها بيان يحمل نقاطًا محددة وواضحة للمخالفين، التوحيد يقتضي المساواة، المسؤولية الفردية، النقاش بالحجج، المصير لله. هذه المبادئ بمنزلة أساس تستند إليه إستراتيجيات إقامة الدين التي ذكرتها السورة، وهي الدعوة والعدالة والإيمان العالمي (راجع المقالة السابقة).
وحدانية الإله تفرض المساواة
((اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ)) ماذا يعني التأكيد أن الله ربّ الجميع، وأنه ربّنا وربّ المخالفين لنا في الدين والمعاندين والشُّكاك؟ خاصة أنه جاء بعد الأمر بالعدل؟ فَهِم المفسرون أن هذا التوحيد هو الذي يؤسس العدل والمساواة العمومية بين البشر، فقد “أمرَنا بالعدل على سبيل العموم، لأن الكل عباده” (تفسير البقاعي). وهذا منسجم مع ما افتتحت به السورة في الآية (3) من تأكيد أن السلطة المطلقة والملكية المطلقة لله وحده.
هذه المعتقدات ترسو عميقًا في عالم الشورى، فالمساواة هي الحجرة الأولى في بناء نظام تشاور حقيقي، يصبح فيه رأي كل واحد مهم؛ لأن الجميع متساوٍ في وصف العبودية، فليس هناك مستبد أعلى يتألَّه فيأمر وينهى، بل يوجد عبد مساوٍ لبقية العباد حيث “أمرهم شورى بينهم”.
من منظور العقل التجريبي والأدلة الملموسة لا يوجد مبرر للمساواة، فنحن متفاوتون في القدرات والمواهب والموارد، لكن الدين العالمي الذي نطق به رسل الله يفرض المساواة ويبنيها على عقيدة التوحيد الراسخة، المساواة فكرة إيمانية بطبيعتها تتجاوز العلوم الطبيعية والاجتماعية، ومن يؤمن بالله يؤمن بالمساواة والعدالة حتماً، وإلا فهو يناقض نفسه.
المسؤولية الفردية
((لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ)) عبارة قرآنية تخترق الزمان وتعبّر الثقافات وتحوي داخلها معانٍ ثقيلة، وهي أحد الأرضيات التي تحكم عملية “إقامة الدين” وإنجاز “الشورى”، يفسر الرازي معنى الآية أن “إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه، فإن الله يجمع بين الكل يوم القيامة ويجازيهم على أعمالهم”.
ذكر المسؤولية الفردية عقب العدل والمساواة مباشرة لشرح طبيعة ذلك العدل والتساوي، فهو لا يعني أن تتم تسوية الناس في الموارد والمعيشة وإلغاء الفرد في الجماعة، لأنه كما يقول (البقاعي) في تفسيره: “لا داعي لأن نأخذ عمل بعضنا فنعطيه لغيره”، فإذا عملت بجد ونشاط فإنني أحصل على أجر عملي، ولا يجوز لأحد أن يأتي نهاية الشهر أو السنة ويجبرني أن أتقاسم ثمرة عملي مع غيري، فهذا ظلم لا يتسق مع العدالة التي تقوم على المسؤولية الفردية. من جهة أخرى فإن المسؤولية الفردية هي المنطق الحاكم للعدل، فكل شخص عمله خاص به يتحمل هو نتائجه، ولا يؤخذ بجريرة غيره.
توجد الزكاة لتضمن حدّ العيش الكريم للجميع، وتؤكد أن المساواة في المعيشة مبدأ للتضامن الجماعي الذي يحفظ المسؤولية الفردية واختصاص كل فرد بعمله، لذلك فهي محددة بنسبة ضئيلة من المال (2.5%) سنويًا إذا كان وضعك المادي مكتف حيث تملك تتجاوز ثروتك الصغيرة حدًا ماليًا معينًا.
النقاش بالحجج
((لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ))، المبدأ الثالث لإقامة الدين وممارسة الشورى هو النقاش المشبع بالحجج والأدلة دون اندلاع خصومة، فقد شرح المفسرون أن معنى الآية: لا خصومة بيننا وبينكم أيها المخالفون، وقد أوضحنا البراهين والحجج لكنكم لم تقابلوها بحجج تنقضها بل أظهرتم العداوة لنا. وإذا ظهرت أمارات الحقيقة ورفض الآخر دون حجج وبراهين فحن إذن في معاندة لا محاججة.
المصير لله
متى تظهر الحجة القاطعة لكل نقاش وجدال؟ يؤكد القرآن أنها لن تكون هنا في الدنيا بل في الآخرة، ويوصي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعلن ذلك: ((اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)). يشير هذا المقطع الأخير في الآية إلى من يحسم الحقائق ويجازي على الأعمال ويقضي بالعدل المطلق إنما هو الله تعالى حين نجتمع عنده يوم الدين.