الحل السحري والسهل لجميع مشاكل القضية السورية، الذي نسمعه من جماهير الثورة وجميع الناصحين والمحبين لها وللقائمين على ثورتها، هو لماذا يفشل السوريون بالتوحُّد؟! ولماذا لا تحملُهم فاتورة الدماء والقضية العظيمة على ترك مصالحهم جانبًا ويتوحدوا لتنتصر الثورة والناس على حدّ سواء، ويبدأ عهد الحرية والعدالة؟! هل من المعقول أنَّ قادة الثورة خبثاء لهذه الدرجة ولا تعنيهم مصلحة بلادهم، أم أنهم عملاء وخونة من الأساس؟!
تطرح تجارب المواجهات المسلحة خيار التوحُّد كخيار سهل نسبيًا، فمعظم المواجهات بين الثوار والمستبدين أو المستعمرين برز فيها الثوار كقوة واضحة وكبيرة وموحَّدة نسبيًا، مقابل بعض القوى الصغيرة التي كانت تخضع تكتيكيًا للقوة الثورية الكبرى، وهذا ما يكون له دور رئيس وأساسي في انتصار جمهور الثورة في النهاية.
ولكن أيضًا لا يمكننا إغفال أنَّ معظم (الثوار) في العالم كانت لهم دول داعمة أنفقت عليهم بسخاء ليحققوا النصر ويضمنوا مصالح الداعمين بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا الدعم ربما كان العامل الأبرز في انتصار ثورات التحرر الوطني إن صحت التسمية. وهذا لا يمنع من وجود تجارب أخرى كان الزخم الشعبي والاحتضان والدعم الذاتي هو كلمة الفصل في معادلة التحرر، لكنها تجارب نادرة ضمن هذا السياق وليست عصامية تماماً، وإنما يختلف الجزء الأكثر ظهوراً بين تجربة وأخرى.
لا تفتقر الثورة السورية لداعمين، فأكوام السلاح المكدَّسة في كل مكان في سورية تؤكد وجود داعمين أسخياء، يقدمون المال والسلاح من أجل الثوار ومن أجل أعدائهم وكيانات أخرى في هذا البلد (إذا تجاوزنا حرمان الثوار من أي سلاح نوعي حتى بعد عشر سنوات على المواجهة)، لكن ما يجعل التوحُّد خيارًا أقرب للاستحالة هو تضارب مصالح هؤلاء الداعمين، وعدم وجود مصالح مباشرة متقاطعة تمامًا مع أي طرف من أطراف الصراع في سورية، ممَّا يجعل الحفاظ على الانقسام والفوضى هو تكتيك المعركة، وهو تكتيك إدارة العلاقات بين الدول المتصارعة في سورية. بالإضافة إلى تضارب الأمزجة الوطنية في البلاد لأسباب متعددة، وظهور هذا التضارب والانقسام في وقت مبكر جداً من النضال ضد الطاغية،
لقد كان قرار الدولة الكبرى في العالم هو حرب استنزاف وفوضى طويلة في المنطقة لا ينتصر فيها أي طرف، وهذا القرار جعل النضال الشعبي في سورية ضد الطاغية حدثاً هامشياً جداً، وأصبحت سورية ساحة صراع دولي وإقليمي تحت عباءة ثورة وانتفاضة شعبية لا أحد يكترث لأهدافها ولتطلعات جماهيرها التي قدمت الكثير من الضحايا كوقود لبقاء هذه الساحة كملعب للمتصارعين الكبار.
أدرك العديد من الأطراف واللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين المعادلة الجديدة للصراع، وتحركت أهدافهم الاستراتيجية لتتماشى معها من أجل تحقيق أفضل المكاسب على المدى المتوسط والبعيد والمفتوح، وخضعت لهذه الاستراتيجية جميع القوى الفاعلة ميدانيًا في الحرب السورية، دون أي محاولة لتغييرها أو التمرد عليها، وسخروا أدواتهم من أجل التحرك ضمن المساحات الجديدة، وصارت المعارضة أو النظام أو الكيانات الأخرى هي أدوات وجود في الساحة، والشعارات التي تحملها هي أوراق لعب ومناورة وقليل من المصالح المشتركة في بعض الأحيان بشرط أن لا تمس قوانين اللعبة إلى عندما تحقق تقدم حقيقي للجهات الراعية.
لا يجب أن ينتظر أحد من السوريين أن يحلّوا هذه المعضلة، فهي ليست من صناعتهم، وهي أكبر منهم، حتى لو كانت في صلب قضيتهم، فالشعب الذي خرج ضد الاستبداد لم يضع في حسبانه ولا للحطة واحدة أنّ عليه أن يحل الأزمات الدولية في المنطقة من أجل الوصول إلى حريته، ولا يمتلك أصلاً القدرة على حل هذه الأزمات التي عجزت عنها حتى الآن أقطاب العالم والإقليم الذين قرروا أن يضعوا أزماتهم على ظهر هذا الشعب وأرض دولته. وليس ذلك من العجز في شيء، إنما من باب معرفة الممكنات والقدرات، فليس من العدل اعتبار الضحية طرفًا في صراع إقليمي ودولي يهيمن على المنطقة بأكملها وليس فقط على الحيز الجغرافي الذي يشغله السوريون وينتمون إليه.
هذه المعضلة هي معضلة تلك الدول المتصارعة، ويجب على تلك الدول أن تقوم بحلها، أو على الأقل يجب على الدول التي تدَّعي أنها تدعم حرية الشعب السوري أن تقوم بإيجاد مخرج ما، وتعلن مصالحها المرتبطة بهذا الشعب إن وجدت! بقوة وصرامة، وتدعم الثوار في مواجهة عدوهم وعدّو المنطقة، من أجل أن تتغير المعادلة الاجتماعية والعسكرية.
إن الدول الراعية للصراع السوري كانت وما تزال حريصة على ألَّا تتوحد جهود السوريين في أي مجال، فرفضوا كل المظلات المدنية التي حاول السوريون إنشاءها منذ بداية الحراك لضبط التمويل، ورفضوا أيضًا حلول التوحُّد العسكري، وحلول التوحُّد الإنساني، وهذا الرفض لم يكن مباشرًا في أي وقت، بل كان عبر خلق كيانات جديدة تصعّب المهمة في كل مرة عبر تقديم الدعم لهذه الكيانات، والالتقاء بسوريين من خارج المنظومات الرئيسة التي تشكلت في بدايات الحراك السلمي والعسكري للثورة السورية، ودعمهم بشكل مستقل عن الجهود الجماعية التي كان يعمل من خلالها الثوار والمعارضون. وعدم الالتفات أو الاعتراف بالكيانات ذات الطابع التوحدي أو تقديم أي مساعدة أو دعم مالي أو معنوي لها، ومحاولة تهديم وتقسيم الكيانات السورية المترابطة (التي وجدت طريقها للولادة صدفة، أو في غفلة من المتصارعين) وإخراجها من بعدها التمثيلي الحقيقي للشعب السوري والمعارضة السورية بأساليب سياسية وإعلامية متنوعة، كما جرى ويجري حتى الآن مع الائتلاف السوري.
إضافة إلى تأسيس منصات سياسية وعسكرية متعددة تتبع بشكل فجّ ومباشر لهذه الدول، وذلك بهدف خلخلة أي حالة محتملة للتنظيم والحفاظ على الفوضى العارمة.
في المواجهات الشبيهة بالحالة السورية، كان هناك عادةً قطبان يتنافسان بوضوح، أحدهما يدعم النظام أو الدولة المحتلة، والآخر كانت مصالحه مع الثوار، تحقيق المصلحة في أسرع وقت كان يفرض على الدول الداعمة أن تعمل على توحيد الثوار ووضع الدعم السياسي والعسكري والإعلامي بيد الأصلح منهم وجمع الناس وراءه، ممَّا يسهل المهمة برمتها، أمّا في الوضع السوري فالعلاقات تبدو متشابكة والمصالح غير واضحة، والكيانات الدولية المتصارعة متعددة، وأي استقطاب حقيقي لجهتين واضحتين سينهي المعركة، وهو ما تحرص الدول صاحبة المصلحة على تجنبه بشكل فعلي وحقيقي، مما لن يسمح بأي حالة توحّد بين السوريين، لذلك علينا البحث عن حلول أخرى خارج هذه الكلمة الصعبة جدًا إذا أردنا أن نغيّر المعادلة.
ولا يعني ما سبق أننا ندعو لكي نريح أنفسنا ونعتبر أن المشكلة خارج أي محاولة أو احتمالية تأثير، وهي تسلط علينا وعلى قضيتنا من الخارج بما لا نستطيع دفعه، وأن نأخذ دور الضحية الضعيفة المغلوبة على أمرها، التي خذلها القاصي والداني!، إنما على العكس تمامًا، فنحن نحاول أن نكون أكثر فهمًا لشكل العلاقات المحيطة بقضيتنا وللصراع المحتدم على أرضنا، ولما يُراد لنا من دمار واندثار، فلا أحد يتألم كما نتألم نحن، ولا أحد يدفع كلفة هذه الإشكالية كما ندفعها نحن من الدماء والضحايا والمستقبل.
هذه المعرفة التي نسعى لتوصيفها بوضوح هي التي ستساعدنا على رسم استراتيجيات جديدة وفعّالة وغير حالمة، ولا تطلق شعارات جوفاء غير ممكنة التطبيق كالتوحُّد، إنما تدفعنا للعمل على آليات جديدة نتجاوز بها الثورة وشعاراتها ومطالبها وأحلامها إلى أشكال جديدة من العمل تكون أكثر قدرة على تحقيق نتائج وعلى رسم خريطة جديدة لمصالحنا ومستقبلنا كسوريين، إذ إننا نحن أهم ما أفرزته هذه القضية، والأقدر على تحريك مياهها الراكدة، ولسنا بذلك الضعف الذي يُراد لنا اعتقاده وتصوره، فالشعب الذي استطاع تقديم كل هذه التضحيات والدماء والاستمرار لمدة عشر سنوات جدير بتقرير مصيره وقيادة بلاده، عليه فقط أن يفكر بمدخلات جديدة لا تجعل كل هذه التضحيات تذهب هباءً، ولا تكررها بلا فائدة.