الوحي والعدل والآخرة.. انفتاح أفق الشورى (2)

أ. عبد الله عتر

 

بعد تأكيد قضية الوحي والتمييز بين نوعي الحق والحقيقة، وتأكيد أن الدين الخاتم يمثل الحق في الزمن الخاتم الذي ينتهي بنهاية العالم، بعد هذا تقدِّم سورة الشورى قضية (العدالة)، وذلك في الآية (17): ((اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ))، وحين شرح المفسرون هذه الآية استدعوا بجوارها آية سورة الحديد: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))، وآية سورة الرحمن: ((وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ)).

التفكير العملي بالعدالة.. آليات وموازين

يرى جمهور المفسرين أن “الميزان” الوارد في الآية استعارة للعدل كما أكد ابن عباس وغيره، (الطبري، وابن عطية، والرازي، والنسفي، والزركشي)، وهو ما يثير السؤال المتوقَّع: لماذا استخدم القرآن هنا الميزان بدل العدل، رغم أنه استخدم كلمة “العدل” في الآية قبل السابقة ((وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ))؟ رأى المفسرون في هذا إشارة إلى سمتين بارزتين للعدل:

الأولى: ممارسات وآليات تحقيق العدل: شرح المفسرون أن الميزان يدل على العدل كونه آلة مادية ملموسة تضمن العدل في عالم الأشياء والحواس، فإن “تسمية العدل بالميزان تسمية المسمى باسم آلته، لأن الميزان آلة الإنصاف والعدل” (القرطبي، والرازي، وابن عطية، والبقاعي)، وإذا كان العدل يتجسد بآلة الميزان في الأمور المادية، فإنه يتجسد بآلية الحكم والقضاء في الأمور الاجتماعية، والميزان يعني هنا الحكم (القشيري والماوردي).

الأخرى: الفهم الموزون للحقوق والأشياء: يحتاج تحقيق العدل إلى “فهوم توازن بين الأشياء” وتتجاوز آلة الميزان الحسي، هذا الفهم الذي “توزن به الحقوق ويُساوي بين الناس” يجب أن يكون مؤيدًا ومُسددًا بالدين (ابن عطية، وابن عجيبة، والبيضاوي، والخطيب الشربيني، والألوسي). ضمن هذا التوجه نسمع بعض المفسرين وعلماء الأصول شرحوا أن الميزان هنا يُقصد به أيضاً “ميزان العقل” الذي تُعرف به الشريعة والخير والشر والصواب والخطأ، لأن “الميزان يُراد به العدل والآلة التي يُعْرَفُ بها العدل وما يُضَاده” (إسماعيل حقي، والمرداوي، وابن النجار، وابن القيم).

يعني هذا أن التفكير بالعدل موصول بآليات وإجراءات وحقوق في الحياة الفعلية توضح كيفية ضمان العدل تنفيذياً، وأي كلام عن العدل لا يتضمن أدوات وضمانات ملموسة فهو كلام ناقص. شرح المفسرون أن فكرة “التقدير بالمقادير الضابطة” هي السمة البارزة التي جاء بها نزل بها الكتاب لتحقيق العدل، بل هي من “محسوسات أوامره” الظاهرة جداً، لأن العدل إنما يكون “بوزن وتقدير مستقيم” (ابن عطية والبقاعي).

تماشياً مع هذه النزعة الأخلاقية العملية تم تأسيس العدل في لحظات الخلق الأولى، فإن آية ((وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان)) تدل أن الله “وضع العدل بين خلقه في الأرض” وجعله أحد “النعم العظيمة” التي منحها الله للبشر والتي لا يجوز لأحد أن يصادرها، لأن العدل “سبب لبقاء عمارة العالم”، و”بالعدل قامت السموات والأرض”، وبواسطة الآليات العملية فإن الناس “يقيمون العدالة في معاملاتهم وأمور تمدنهم” (الطبري، والرازي، والبقاعي، والنيسابوري).

تطبيقات عملية

هذا الفهم للعدل يتبدى في أحكام الشريعة العملية وما استنبطه الفقهاء منها من ترتيبات للعدالة حسب اجتهادهم، فالربا مثلاً يتضمن ظلمًا لذلك حُرِّم، والزكاة نظام يضمن العدالة الاقتصادية بين فئات الناس المتفاوتة لتحقق التوازن الاجتماعي، ولا تكمن أهميتها كونها دعوة أخلاقية وحقوقية للعدالة، بل تترجم تلك الدعوة للعدالة إلى موازين فعلية (آليات وحقوق ومؤسسات تنفيذية)، ولذلك نجد أنه بمجرد أن نزلت أحكام الزكاة تشكلت مؤسسة مالية تدير ذلك على مستوى الجماعة.

العدل بوصفه مساواة وإنصافًا..

كيف فهم المفسرون العدل خلال تفسيرهم لهذه الآية؟ يتبين بوضوح أن تفسيرهم لمفهوم العدل هنا يجمع بين المساواة والإنصاف معًا، وبعبارة أخرى العدل هو المساواة المنصفة، ولعل من أوضح عباراتهم أنه “سُمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية” و”العدل هو التسوية والإنصاف” كما يقول (الواحدي، والقرطبي، والبغوي، وابن الجوزي، والعز بن عبد السلام، والشوكاني)، ونظراً لوجود هذين العنصرين في مفهوم العدالة نجد المفسرين يشرحونها في كل سياق بما يناسبه، فأحياناً يتجسد العدل في المساواة فيقولون: “العدل التسوية” أو “العدل هو المساواة” (الطبري، الراغب الأصبهاني، والرازي)، ويذكرون أن العدل “يساوي بين الناس”، ويتجسد أحياناً بالإنصاف فيقولون: “العدل الإنصاف”، وهذه مقولة لسيدنا علي بن أبي طالب وابن عيينة اعتمدها المفسرون، ويشرحون أكثر أن العدل يحتاج إلى فهوم توزان بين الأشياء” و”إعطاء كل ذي حق حقه” (الطبري، والقرطبي، وابن الجوزي، البيضاوي)

لعل المغزى المعاصر المهم لنا في هذا الفهم للعدالة أنه يقوم بتركيب بين مفهوم المساواة التي تقتضي التسوية في الحقوق والواجبات من حيث المقدار، وبين مفهوم الإنصاف الذي يهتم بالفروق الفردية وأن تكون القسمة في المحصلة متوازنة، ولذلك تحدث المفسرون هنا عن فهم عميق قادر على رؤية التوازن بين الأشياء والحقوق، فهو ليس مجرد تعويض حسابي للجميع بالكميات والمقادير نفسها من الحقوق والأشياء، فقد يحتاج البعض مقادير أكبر نظرًا لأنهم يعانون من تعويق أكبر مثلاً.

تأثرت التشريعات الإسلامية بمنظور العدل كمساواة وإنصاف، فأوجبت على القاضي أن يعدل بين الخصوم في تفاصيل دقيقة أثناء عملية التقاضي، و”العدل التسوية بينهما في المجلس إذا أجلسهما بين يديه”، لأنه إن أجلسهما من جانب واحد فقد فوَّت التسوية، لأن أحدهما يكون أقرب إلى القاضي، وعليه أن يسوي بينهما في النظر فلا ينظر إلى أحدهما دون الآخر، وهذا على اعتبار العدل مساواة (السرخسي، وابن مازة).

أما العدل بوصفه إنصافاً فهو يتجاوز ظاهر المساواة في حالات معقدة ليصل إلى عمق العدالة، فيذكر الفقهاء أن الرجل لو كان له ولدان لا يقدر إلا على إطعامهما رغيف خبز واحد فإنه يفضه عليهما بالسوية، كل ولد يحصل على نصف الرغيف، والعدل هنا بمنظور المساواة، لكن إذا كان نصف الرغيف يشبع أحدهما تماماً بينما يسد نصف جوعة الآخر، فكيف نفعل؟ أجابوا بأنه يفضه عليهما بحيث يسد من جوعة أحدهما ما يسدُّ من جوعة الآخر، فإذا كان ثلث الرغيف ساداً لنصف جوعة أحدهما، وثلثاه ساداً لنصف جوعة الآخر فليوزعه عليهما كذلك، لأن “هذا هو الإنصاف” حيث “سوَّى بين المنَفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم”  حسب تعبير (العز بن عبد السلام). كما هو ملاحظ فإن هذا انزياح في مفهوم العدالة من مجرد التساوي في الموارد (نصف رغيف لكل واحد) إلى التساوي في تلبية الحاجات وجودة الحياة الفعلية.

رحلة البحث عن العدالة.. الفطرة والعقل والدين

التقط المفسرون إشارة غريبة أطلقتها الآية بأن العدل تم إنزاله: ((اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ))، وتساءلوا عن مغزى ذلك: كيف نزل وأين نبحث عنه؟ شرحوا أن العدل نزل في الدين والعقل والفطرة، فالله “أنزل العدل في الكتب المنزلة” وأمر به، فمن أراد تحري العدل بحث عنه في هدايات الشريعة وأحكامها (ابن عطية، والنسفي، وابن عاشور)، وضمائر الناس مخلوقة على العدالة والإحساس بها وتمجيدها، لأن االله “ألهمهم وزن الأشياء بالميزان ومراعاة العدل في الأحوال” (القشيري)، كذلك فإن الميزان هو العقل الذي توزن به الأمور والأفكار.

يترتب على هذا أن التفكير بالعدالة وكيفية تحقيقها في مجتمعاتنا يجب أن يستند إلى أحكام العقل وأحكام الشريعة وأحكام الفطرة، ولا يمكن لواحد من هذه الثلاثة أن ينفرد بترتيبات العدالة، فلا يمكن التعويل فقط على الفطرة والشعور الفردي الذي يخبر عما هو عادل وظالم، لذلك يحتاج الأمر إلى إعمال العقل والتحليل المنطقي والاجتماعي لأحداث الحياة لاكتشاف عناصر العدل والظلم فيها وكيفية الانتقال بها خطوات للأمام، وسيكون هذا ناقصاً ومختلاً ما لم يكن مسدداً بالوحي الرباني الذي يفتح آفاق جديدة للعدالة.

انعكست هذه الرؤية على مصادر التشريع الإسلامي بشكل مباشر، فالأدلة الكلية للشريعة ترجع في نهاية المطاف إلى دليلين، هما “الكتاب والميزان”، فالكتاب هو “الوحي”، ويتمثل بالوحي المتلو “القرآن” وغير المتلو “السنة”، أما الميزان فهو “الرأي” العادل الصحيح، ويتمثل عادة إما برأي الجميع “الإجماع، أو رأي البعض دون البعض وهو “القياس” (المرداوي، وابن القيم، وعلاء الدين البخاري). يختصر (إسماعيل حقي) في تفسيره أن ميزان العقل وكتاب الشرع قرينان متلازمان، لا بد لأحدهما من الآخر، وسمَّاهما البصيرة، فقال تعالى: ((قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا فعليها))، ويثبت ابن القيم أنهما في معرفة الأحكام شقيقان (ابن القيم).

هكذا أضاء المفسرون مفهوم العدالة بمفاهيم المساواة والإنصاف والآليات والتوازنات، وهو ما سيكون ذو صلة عميقة بقضية الشورى والحريات في المقالة القادمة.

 

عبد الله عتر 

الآخرةالعدلالمساجدسورياعبد الله عتر