تجديدُ الفِكرِ الدعويّ؛ مسؤوليّـةٌ لا خِيـار

د. محمد بشير حدّاد

تابعتُ قبلَ أيام قليلةٍ برنامجاً حواريّاً ناطقاً باللغة العربيّة على إحدى الفضائيات الأوربيّـة يُكرّسُ فيـه المحـاوِرُ جهـدَه لجذبِ الشبابِ العربيّ المسلمِ -بشبابِه و فتياتِه-؛ ممّن هاجرَ إلى الغرب؛ فترى هذا المحـاوِرَ من خلال برنامجه هذا -و برنامجٍ آخرَ يقدّمُه- يسعى لفتحِ قنواتِ الحوارِ المُشوِّشِ غيرِ المنضبطِ بضوابطَ و محددات بين الشباب و الفتيات العرب المسلمين المهاجـرين إلى البلاد الغربيّة سواء كانوا من أبناء الجيل الأول المهاجِر أم الجيلِ الثاني ممّن انخرطوا في المجتمعات الغربيّة و انفتحوا على طبيعة الحياة فيها و راقتْهـم أنماطُها المنحرف منها عن أصالةِ و قِيمِ ديننـا و مجتمعاتنا العربية، و ذلك بعـدَ أنْ كانوا في إطارٍ من الالتزامِ الدينيّ المقبـول و الذي قد يصلُ لمرتبة الجيـد!
• و من خلالِ متابعتي لعدّةِ مداخلاتٍ قدّمَها شبابُنا العربي المهاجر في مجتمعاتهم التي يقيمون فيهـا كان لابد من تحليلِ الظاهرة و رسمِ معالمِهـا وصولاً لتقديـمِ رؤيةٍ نحو العـلاج.
• و في سبيل أنْ نكونَ صريحين نمتلك الجرأةَ الواقعيةَ الواعيةَ في تحديد التهديدات التي تواجهُ مجتمعاتنا الإسلامية و تحدياتها المتزايدة؛ سيما في بلاد المهجر على وجه الخصوص.
فشبابُنـا العربيُّ المسلمُ يعيش بين ثقافات متعددة، و ظروفٍ معقَّدة من العلاقات و التحديات.

▪️أساليب الدعوة بين التقليد و التجديد
في ظلّ هذا الواقع تبرزُ الحاجةُ الماسّةُ إلى إعادةِ التفكير في أساليبِ الدّعوة وتجديدِها لتواكبَ متغيّرات العصرِ، وتستجيبَ لاحتياجاتِ الأجيالِ الجديدةِ الحاليةِ منها و المستقبليـة، و النظر بـرؤيةٍ شموليـة واعيةٍ لعمقِ القضايـا الأكثـر حضوراً على مستوى العلاقات الاجتماعيـة و الأُسـريـة التي تبني منظومةَ المجتمع المسلم في بلاد المهجـر؛ فيحافظ على وجوده و قِيمـه و سلوكـه في إطارِ الانضباطِ الراقي بشريعـة ديننـا الحنيف… و سأتناولُ هنـا القضايـا الأبـرز
➖ أولاً: قضيـة الزواج:
• و تأتي قضيـةُ الزواجِ في مقـدّمـة القضايـا التي يُرادُ تحويلُهـا إلى صورةٍ مفرغة من المضمـون و الغايـة الراقية من اعتبار الزواج ضرورة إنسانية للشباب والشابات في ظلال الودّ و السكينـة و عمـارة الأرض، لتغـدو صورةً من صور الماديـة المغرِقـة و ذلك من خـلال نقلِـه -أي الزواج- من سماحـةِ التيسير إلى التعقيد و التعسير.

اقرأ أيضاً: أطعمة طبيعية تنافس الأدوية في كبح الشهية وتعزيز الصحة

ومعلوم أنّ الزواجَ في الإسلام كانَ دائماً أمراً مُيسّراً؛ بل مُشجعاً عليه، إذ هـو من أهمّ ركائـزِ استقرارِ الفرد و المجتمع؛ من خلال تعزيـز الاستقرار النفسيّ للشاب و الفتاة، وَ ضبطِ السلوك الشخصيّ، وَ تحمّـلِ أمانة المسؤوليـةِ و بناء المجتمـع، و تقديـم الصورة الأمثلِ لهمـا من خلال حُسنِ تربيـةِ أبنائهم.
و لنـا في مجتمع الصحابة -رضي الله عنهم- نموذجاً مشرِقاً للتيسيرِ والمرونة، و الاهتمـام بالغايـة و الجوهـر على حسابِ المادة و الطقوس، حيثُ كان الزواجُ -والطلاقُ كذلك- كان الزواجُ بعدَه أمراً شائعًا في عهود الصحابة والسلف يتم بنضجٍ و سلاسـة و بضوابطَ إيمانيّة تصونُ و توجّهُ دون تعقيداتٍ في السلوك و الإجراءات، و دون استنكارٍ و أفكارٍ مريضـةٍ من جهـة المجتمـع المسلـم.
• أمّا اليوم، فقد أصبحت مجتمعاتُنا تُعقِّـدُ الزواجَ و تُصعّب إجراءاتِـه و طقوسَـه بشكل غيرِ مبرر، فيضـعُ الشـابَّ أمامَ مطالبَ ماديّةٍ باهظة، وَ شروط معقّدة -أو غيـر ميسـرة- لا طاقـةَ للشاب المقبـل على الزواجِ إنجازُهـا و تلبيتُهـا… ويـواجهُ الشـاب -و كذلك الفتـاة- أعرافاً اجتماعية مربِكةً ضاغطة لا تمتُّ لشريعـةِ الإسلامِ بصلـةٍ؛ بل و تحـرفُ مشـروعَ الزواجِ عن هـدفه السامي الذي شرعـه ربُّنـا.
• إنَّ هذه التعقيدات تؤدي لمشكلاتٍ و ظواهـرَ سلبيةٍ يظهـرُ أثرُهـا في بنيـة المجتمـع المسلـم من خـلال تأخير الزواج الذي قد يصلُ عند شريحـة من الشبابِ لحـدِّ العزوفِ عن مشروع الزواجِ الضابطِ للفرد و المجتمع ، ممّا يفتحُ البابَ أمامَ مخاطرَ اجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ جسيمة، فضلاً عن تعزيز ثقافة الانسلاخِ لشبابنـا عن بيئاتهم الاجتماعيـة الإيمانية و تنقلهم بعيداً عن أسرهـم و حواضنهـم الإسلامية.
➖ ثانياً: الشباب بين التشدُّد والاحتواء
• إنّ شبابَنا المسلمَ في المهجَر يواجهُ تحدياتٍ ثقافيةً واجتماعيةً مختلفةً تماماً عن تلك التي يعيشُها أقرانهم في المجتمعاتِ الإسلاميّة، وبدلًا من احتضانهم وَ فهمِ خصوصيّة واقعِهم، و تعزيزِ ثقتِهم بالإسـلام وقيمِـه بتنميـة الوازع الإيمانيّ في نفوسهـم، نجدُ أنّ بعضَ الدُّعاةِ وأفـراد المجتمع وَ الآبـاء يحاصرونَهم بأسلوب تفكيرٍ حَـدّيٍّ جـامـدٍ لا يراعي ظروفَ الواقع الذي يعيشه الشباب في الغرب و لا يتفهـم حاجاتهم؛ فلا يقبلُ حواراً و لا يبرمجُ خطـةً للحفاظِ على هذه الثروة البشريّة الهائلة من الطاقات بِجذبهـا و احترامِهـا وصولاً لاحتـوائهـا.

• هذا السلوك الجامد من التشدُّد قد أدّى -و يؤدي- إلى نفورِ الشباب من دينهم وتراجع انتمائهم لقيمِهم الإسلامية؛ لذلك لا خِيـارَ أمامنـا جميعاً إلّا بـاحتواءِ أبنائنـا الشباب، و تفهُّم مخاوفِهم، و فتح قنوات الحوارِ الهادئ اللطيف الجاذب لشابنـا وَ الاستماع إلى أصواتِهم بدلًا من إصدار الأحكام أو ممارسة سياسـة الإقصـاء و التعالـي.
➖ ثالثاً: تجديد الفكر الدعويّ
• بدايةً لابدّ أنْ ندركَ أنَّ الدعوةَ الإسلاميّةَ ليست مجردَ شعاراتٍ تُرفع، أو خُطبٍ تُلقى، أو محاضراتٍ تُقدّم؛ بل هي مسؤوليّةٌ تتطلبُ فهماً عميقاً للواقع بعد اسقرائـه بأحواله و دقائقـه، وَ ابتكاراً في الأساليب والطرح، يُضافُ لهـا الواقعيةُ الموضوعيّة في التعامل مع القضايا التي تجـدُّ و تطرأ.
• و تأسيساً على ذلك كانَ تجديدُ الفكـرِ الدعويّ ضـرورةً لا رفاهيـةً و ترفـاً، لكـن لهـذا التجديد -في الفكـر الدعـويّ- ضوابـطُ تبنيـه و تصوّبُـه منهـا:
1 -الانطـلاق من الحكمـة و جميـل الخطـابِ المقرون بالموعظـة الحسنـة كما أرشـدنا القرآنُ الكريم.
2 -التفاعـل الواعي مع قضـايـا الشـباب بمـرونة متّزنةٍ وإبداع جاذب، بعيدًا عن الغلـوّ و التسطيح و الهروبِ و الإقصـاء.
3 -بناءُ استراتيجياتٍ دعويّةٍ تعكس فهمـاً حقيقياً لتحدياتِ العصر في بلادنـا الإسلاميـة و المهاجر الغربيـة على السواء، و فتـح جسورٍ من التواصل الاجتماعيّ المثمـر على أرضيـة من العمـل و الجذب و الإنجاز.

▪️دعـوة للتواضع الدعويّ
• مما لا شكْ فيه أنّ لكل إنسان خصائصَ و مَلَكاتٍ و هِبَـات من التميـز وضعَها اللهُ في بعض الناس دون غيـرِهـم و بالتالي فليس كلُّ داعيةٍ -رجلاً أوِ امرأة- مُؤهّـلًا للعملِ مع الشبابِ و الفتيـاتِ، و فهمِ خصوصياتِهم الثقافيّة والاجتماعيّة و حاجاتهم النفسيّـة و الفكـريّة وخاصة في بلاد المهاجر التي يقيمون فيهـا.
فمن لا يجدُ في نفسِه القدرةَ على التعامل مع هذه الشريحـة الأهـم ، عليه أنْ يوجّهَ جهودَه نحوَ مجالات أخرى تناسب مهاراتِـه و مَلَكاتـه و وعيـه،و يحققُ من خلالهـا شغفَه و إنجازَه.
فالدعوة ليست حكرًا على فئة معينةٍ دونَ غيرهـا، بل هي مسؤوليةٌ تتطلب مواهبَ من الفهـمِ و الوعي و الكفايـةِ و التميُّـزِ و الحكمـةِ و الاحتكاكِ مع الواقع و مواكبـة العصـر و مستجداته…
و العنصـرُ الأدقّ المصوِّبُ لذلك كلّـه هو الإخـلاصُ مـع الصدق والإبداع والمرونة و التيسير في العمـل لخدمـةِ الإسـلام و أُمتـه وفقَ أسسٍ واقعية عملية.
• ومن المؤسف حقّاً أن بعض الدعاة أو الأُسرِ المسلمة في المهجَر ينقلون خلافاتِهم الفقهيةَ أو تقاليدَ مجتمعاتِهم على أنَّها من أصولِ الإسلام، و جعلِهـا دينـاً.
فمثلُ هذا التوجه يؤدي إلى اتساعِ الفجوة بين الشبابِ المسلمِ وَ دينهم، و بالتالي نفورهم من الدعوة و دعاتهـا.
لذا نؤكد أنه يُحتّـمُ على الدعاة أن يدركوا خصوصيةَ البيئات التي يعملون فيها؛ فيتحملوا مسؤولياتهم بتقديم الإسـلام بصورته الحقيقية الأنضـج: دينِ الرحمة وَ التيسير وَ الحكمة وَ الشمول ،وَ الواقعية، وَ الإنسانية.
▪️و ختامـاً أذكّـرُ مؤكّداً:
إنّ التجديدَ في الفكر الدعويّ ضرورةٌ وليست خِياراً و نافلـة؛ لأنّ شبابَنا في المهجر والغرب بحاجة إلى خطابٍ يواكبُ ظروفَهم، وَ يعزِّزُ انتماءَهم لدينهم، وَ يمنحُهمُ الأملَ؛ إذ ليسَ الإقصاءُ و الجمودُ و الكِبـرُ حـلاً.
• إن نجاح الدعوة يبدأ و ينطلقُ من فهـم الواقع والعمل بصـدق على معالجة اضطراباته، مع التحلي بأمانـةِ المسؤولية الرّساليّة بحملِ هـمّ الأمـة و نشرِ رسالتهـا الدعويّة.
فلا خِيـارَ لنـا إلّا أنْ نسعى دوما ودون توقف للارتقـاء بهممنـا و مهارتنـا لنكونَ دعـاةَ بناءٍ وَ رحمة كما أمرنا الله -سبحانه وتعالى- {اُدعُ إلى سبيلِ ربِّكَ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادِلْهم بالتي هي أحسنُ}[النحل:125]،
{ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالتي هي أحسنُ}[فصلت:34]…

الدعوة الإسلاميةالفكر الدعويتجديد الفكر الدعويسوريامحمد بشير حداد