أكوام من الدمار، مدن كاملة أصبحت كالهشيم، في سرمدا وعفرين وبسنيا واعزاز وجنديرس … لا يمكن وصف الفاجعة، اليوم وبعد أربعة أيام على الزلزال المدمر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري لم نعد نستطيع أن نسمع أي صوت للحياة من تحت الركام، هدأت أصوات الاستغاثة وخيّم الموت فوق كل شيء، والكثير من الناجين مشردون في الطرقات والبراري بلا مأوى ولا طعام ولا حتى خيام تقيهم شيئاً من البرد، الناس في هولٍ كأنه القيامة، الأطفال هنا ينازعون ما تبقى من حياتهم، ويخوضون امتحانات الموت الجديدة من البرد والجوع بعد أن شرّد الزلزال تشردهم الماضي وفاقم معاناتهم وعمّق مأساتهم.
هنا في شمال سورية، لم تكن الحياة متاحة للجميع، ولكن الموت كان متاحاً بشدة، وكان العالم يتابع الفرجة على موت السوريين، وكأنه قد اعتادها منذ أكثر من عشر سنوات، لم تمتدّ أي يدٍ لإنقاذهم، ولكن التباكي كان وافراً، والتعاطف كان سخياً، كان العالم يحاول أن يستوعب الموت، بينما كنّا وحدنا من يحاول استنشاق ما تبقى من أنفاس الحياة.
نصارع شهقاتنا الأخيرة الآن ونحن في اليوم الخامس على الكارثة، لم تدخل أي مساعدات إلى الشمال السوري، رغم فتح جميع المعابر وفي كل الاتجاهات، كلّ ما حدث أن يدّ المنكوبين هي الوحيدة التي امتدت لتمسح على رؤوسهم، الأهالي في الشمال السوري هم وحدهم من تقاسم المأساة والطعام والشراب وما وجدوه من دفء، فأعطى كل واحد منهم فضل ما عنده لأخيه وهو الذي يعاني التشرد والفقر والمعاناة، ولكن كما يقولون هناك (الجود بالموجود).
تصارع المنظمات السورية المحلية بكل ما لديها لتستطيع أن تقدم يد العون، ولكن الكارثة كانت أكبر من قدرة دول متقدمة بحجم تركيا، فما الذي يمكن أن تفعله منظمات محلية تفتقر لمعظم المعدات اللازمة، ولكن العذر بالعمل قدر المستطاع هو ما يدفع الشباب والشابات للعمل، يفرشون أيديهم للناس عندما لا يستطيعون أن يقدموا أي مأوىً آخر.
في شمال سورية نحتاج كل شيء، … معدات إزالة الركام والأنقاض، معدات الإنقاذ والإسعاف، خبراء، أطباء، خيم للإيواء، بطانيات، مواد للتدفئة، أدوية، طعام جاهز … كل شيء، لأن الكارثة بدورها أتت على كل شيء، ولم تبقِ لنا إلا عزائمنا المتعلقة بما يمنحنا الله من قوة لمدافعة الموت والفاجعة، كل من نجا هناك يعمل، لا أحد يتفرج على الموت كما يفعل العالم من حولنا، الدفاع المدني، المتطوعون، الجيش الحر، المؤسسات المدنية، الجميع يبذل أقصى ما لديه من طاقة من أجل أن ينقذ روحاً ما زالت تتمسك بالحياة، يحفرون بأيديهم بين الأنقاض عندما لا يجدون ما يحفرون به، تنزف الدماء من تحت أظافرهم، ولا يتوقفون …، يعلمون جيداً أن المأساة مأساتهم، وأنهم الثكالى واليتامى والموتى، لا أحد لهم، فيكتفون بأيديهم الموصولة بيد الله الحانية، والعزاء لمن قضى أنه غادر مأساة وطن ما زال يقبع في براثن الموت منذ أكثر من 10 سنوات.
لا شيء بالنسبة لنا قد تغير كثيراً سوى اتساع رقعة الموت، لقد خرجت في وقت سابق من حلب في باصات التهجير وكانت البراميل والصواريخ تزلزل كل ثانية من حياتنا، يومها .. رأيت دموع العالم وتعاطفهم مع مأساتنا وموتنا، بعد فترة قصيرة نسي العالم الكارثة، تعرض الناس بعدها للكثير من المجازر والدماء في هذه الرقعة الصغيرة، وفي كل مرة كان التعاطف والقلق هو ما يجود به العالم علينا، أما نحن فكنا نجود بأنفسنا، وكان الموت والتشرد هو ما ينتظرنا دائماً.
اليوم اختار القدر أن يختبر ما تبقى لدينا من عزيمة وما تبقى لدى العالم من رحمة، نجحنا نحن وما نزال في اختبار العزائم، وانكشف زيف إنسانية هذا (العالم المتحضر) الخالي من الرحمة والشفقة.
حتى الآن تفكر الأمم المتحدة بضرورة التباحث في مجلس الأمن من أجل إيصال المساعدات، وكأنهم ينتظرون أن يموت حتى الأمل قبل أن يتخذوا قراراً واحداً، ماذا ستفعل المساعدات العاجلة بعد خمسة أيّام؟؟؟ ربّما يناقشون عدد الأكفان! أو يتوصلون بذكاء إلى عدم جدوى التباحث، لأن الموت قد أنهى مهمتهم الأخلاقية!
ندرك وجود أناس طيبين في كل البلدان حولنا، هناك من يبذل المستطاع ومن يحاول أن يتحدى قوانين هذا العالم ليوصل لنا يدّ المعونة، نعرفهم ويعرفون أنفسهم، ولقد لامست أيديهم الخيرة أرواحنا المتصاعدة للسماء، ولكنّ المصاب جلل، ولا نملك لهؤلاء إلا تقديم الشكر والمحبة والأخوة الصادقة، وليعذروا ضعفنا عن تقديم ما يليق بهم من تقديرٍ وعرفان.
سيمر الوقت .. سينسى الناس .. ولكننا ننزف .. ننزف وما نزال …