قال أحد المعلقين الذين يقضون أوقاتهم في قراءة الشعر على وسائل التواصل، إنّ نزار قباني ليس شاعراً، فهاج الناس وماجوا، وحقّهم أن يفعلوا، واضطربت الآراء بين نذرٍ يسير جلّ أن يفقهوا اللغة والشعر، فقالوا ما قال هذا المعلق!!! وبين جمهور من الأدباء والشعراء والمثقفين والعامة والسوقة ورعاع الناس مُتحضِّرهم وهمجمهم، سكان مدن وبادية وقرى وعشوائيات، لتتفق أقوالهم جميعاً “إذا لم يكن نزار شاعراً فمن هو الشاعر“!!!
ولعلّ هذا أصدق ما قيل في نزار، فالشعر يُعرّف بنزار، ونزار يعرف بالشعر، وهو أحد معايير الشعر ومدارسه الكبيرة، ولا شاعر كان لكلّ الناس، كما كان نزار، فقد وجد الناس على اختلاف نهجهم وثقافتهم وبيئاتهم في نزار وشعره مكاناً لهم، وجد المثقف شعراً يليق به، ووجد أولاد الشوارع في شعر نزار ما يليق بهم، لقد مثّل نزار الجميع، وأعطى من شعره وقلبه للجميع، وقال شعراً جديداً بلغة جديدة لم يسبقه إليه أحد، وحاول الكثيرون أن يتابعوه عليه وينهلوا منه.
ماذا أقول عن نزار، وكيف أكتب عنه! وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وإذا كان ثمّة أحدٌ يماثل المتنبي قدراً في الشعر أو يدانيه، فلا أحد سوى نزار، وهو من حمل نفسه وشعره على أكتاف الناس وأحلامهم، لا على أكتاف السلطة وأموالها، فيكاد يكون نزار أول شاعرٍ يحمله شعره للناس، ويشتهر بينهم دون أن يكون مقرباً من سلطان أو حاكم أو أمير.
ومن أين يبدأ المرء حديثه عن نزار، من الحبّ أم من السياسة، من الصورة أم من اللغة، من دمشق أم من بيروت أم من حلب، من الثورة أم من الثوار، من الوطن أم من المهاجر والمنافي!!!
أحبّ نزار المرأة، أحب أمّه وزوجته ونصف نساء الدنيا في كلّ لحظة، ومن منّا لا يحب مثل نزار، ولكننا جبناء إذ لا نعلن ذلك الحبّ، ونزار كان حرّاً شجاعاً، كسر بالشعر جميع القيود عنه وحوله، فراح ينساب شعراً ومشاعراً، بحراً يفيض ويمتد لا شاطئ له، تُحطم أمواجه الصخور ويُغرقها، ويغرق فيه محبوه وكارهوه على السواء، يدندنون شعره ليشتموه وهم سعداء به.
أحبَّ نزار المدن والتاريخ والأبطال، وتمسّك بهم لكي يخرجوا أمّته من ضعفها وسكونها، فحضرت في شعره دمشق كما لم يحضر أحد، وحضر معها معاوية وابن مروان وخالد ابن الوليد وغيرهم، وحضرت بيروت وتونس وقرطاجة وبغداد والأندلس …، وحضر مع كل مدينة أبطالها، ومع كل ذكرى عشاقها، إلى أن حضرت دروب العشق كلها في حلب.
وما أحلاها من ذكرى إذا كنّا لا نذكر شعر نزار، إلا وتخطر في بالنا المرأة، فنسميه شاعر المرأة، ويشتعل خيالنا بالجميلات قبل أن نقرأ شعره حتى، أيّ جمالٍ يمنحنا إيّاه نزار ويختزله ذكره، إذا كان ذكره يرتبط بكل الجمال الذي خلقه الله على الأرض وكانت فتنتنا به!!!
ومن جابه الطغيان مثل نزار، ومن قرّع الطغاة مثل نزار، ومن داس على يأسنا واستسلامنا بشعره كما فعل نزار، فهو الذي يعرف السرُّ في مأساتنا، ويعرف أن صراخنا أضخمُ من أصواتنا وسيفُنا أطولُ من قاماتنا …، لا حصر للقصائد التي تثور في شعر نزار وقد ثرنا بها مرّات ومرات، لا حصر للقصائد التي تحكي قهر قلوبنا من الحكّام وقد رددناها إلى أن اشتفت صدرونا، لا نصر نتخيله اليوم إلا كما هو مكتوب بشعر نزار:
يا أيُّها الأطفالْ..
من المحيطِ للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيكسرُ الأغلالْ
ويقتلُ الأفيونَ في رؤوسنا..
ويقتلُ الخيالْ..
لا تقرؤوا عن جيلنا المهزومِ يا أطفالْ
فنحنُ خائبونْ..
ونحنُ، مثلَ قشرةِ البطيخِ، تافهونْ
ونحنُ منخورونَ.. منخورونَ.. كالنعالْ
لا تقرؤوا أخبارَنا
لا تقتفوا آثارنا
لا تقبلوا أفكارنا
فنحنُ جيلُ القيءِ، والزُّهريِّ، والسعالْ
ونحنُ جيلُ الدجْلِ، والرقصِ على الحبالْ
يا أيها الأطفالْ:
يا مطرَ الربيعِ.. يا سنابلَ الآمالْ
أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمهْ
وأنتمُ الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمه..
ولا حديث أطول من حديث الأوطان والمنافي والطغاة والاستبداد والحب والثورات عند نزار، فهو الذي يكتب كما قال لأن الكتابة انفجار، ويكتب حتى ينقذ الكلمات من محاكم التفتيش، ومن حكم المليشيات ومن مشانق الرقابة، فلا شيء يحمينا من الموت سوى المرأة والكتابة.
واللغة في شعر نزار لغة سهلة بسيطة واضحة عذبة، معجمها يعرف مفرداته كل الناس، ويفهم سياقه الدلالي كلّ الناس، وهو يُدُّور تلك اللغة ببراعة، فلا حاجة عنده ليخترع الكلمات، أو يتوسل القوافي، هو فقط يعيد تشكيلها، فلغته كالألوان يرسم بها في كل مرة رسوماً جديدة في كتب الشعر وقصائده ودواوينه، وألوانه واضحة صارخة، تؤدي مرادها على أحسن وجه، فمعجم نزار ليس ثرياً الألفاظ كما هو معروف، ولكنه ثريّ بالمعاني والسياقات الدلالية التي بنى منها نزار قلعة شعرية شامخة.
وهو أيضاً كثير التصوير في شعره، مبدع في جعل الصور البسيطة وكأنها تحفٌ تشكيلية يصعب الإتيان بمثلها، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في شعره، منها قوله:
عيناك آخر مركبين يسافران
فهل هنالك من مكان؟
عيناك آخر فرصتين متاحتين لمن يفكر في الهروب
وأنا أفكر بالهروب …
عيناك آخر ما تبقى من حقول التبغ … ومن تراث العشق
عيناك آخر زفة شعبية
وآخر مهرجان
كما أن قصائده مليئة بالصور المركبة الفريدة، ولكنها لا تخرج عن عاداته بالوضوح والعذوبة وسهولة التلقي والفهم والحفظ والتكرار،
من أين أدخل في القصيدة يا ترى
وحدائق الشعر الجميل خراب
من أين أدخل في القصيدة يا ترى
والشمس فوق رؤوسنا سرداب
إن القصيدة ليس ما كتبت يدي
لكنها ما تكتب الأهداب
أنا يا صديقة متعب بعروبتي
فهل العروبة لعنة وعقاب
أمشي على ورق الخريطة خائفا
فعلى الخريطة كلنا أغراب
يا تونس الخضراء كيف خلاصنا
لم يبق من كتب السماء كتاب
ماتت خيول بني أمية كلها
خجلا وظل الصرف والإعراب
فكأنما كتب التراث خرافة
كبرى فلا عمرٌ . . ولا خطاب
وكل هموم المهجرين وجراحاتهم، تشبه جراحات نزار، بغبر سواحل، وكل المنافي لا تبدد الوحشات، لأن المنفى الكبير بداخلنا، كما قال نزار.
وكل أغراض الشعر تشتاق لشاعر مثل نزار، ولا يتوقف الحديث عن نزار، ولا يصلح الحديث عنه إلا بكثيرٍ من شعره الذي يُسكر العقول، ويطرب الأبدان، فلا أجمل من أغنيات كتبها نزار، ولا أحلى من ألحان سيقت لأجل قصائد نزار … ولا أعذب من أصواتٍ غنّت شعر نزار …
أيظن أني لعبة بيديه؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ليقول لي : إني رفيقة دربه
وبأنني الحب الوحيد لديه
حمل الزهور إلي .. كيف أرده
وصباي مرسوم على شفتيه
ما عدت أذكر .. والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديه
سامحته .. وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيه
وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه ..
ونسيت حقدي كله في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه؟
كم قلت إني غير عائدة له
ورجعت .. ما أحلى الرجوع إليه ..
ومثل نزار هناك شعراء كُثر عاصروه، كتبوا شعراً مجيداً قد يعجب الناس أكثر مما يعجبهم شعر نزار ، لكنّ ذلك لا ينتقص من تجربة نزار الشعرية وفرادته، فشعراء كعمر أبو ريشة وبدوي الجبل والجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد ومحمود درويش وطوقان ونازك الملائكة والفيتوري … وغيرهم الكثير من الشعراء الذين لديهم تجربة شعرية عظيمة يشبهون بعضهم أو يشبهون غيرهم من الأقدمين، وتستطيع المقارنة بينهم، ولكن في النهاية من يشبه نزار، ومن يشبهه نزار!!! هذه الفرادة عند نزار هي ميزته أينما وضعتها، إن شئت في أعلى الشعر أو دون ذلك، ولكنك لا تستطيع إلا أن تقرّ بفرادة تجربته وبأنها مدرسة خاصة ومميزة وجميلة وعذبة في الشعر والكتابة …
مهما كتبت فإني لا أفي حقّ نزار، ولا أشبع من نزار، وسأبقى أقول في نفسي لو قلت كذا، ولو أضفت كذا، لو ذكرت ذاك البيت أو تلك القصيدة، لو تحدثت عنه أكثر وأكثر، … إن نزار يستعصي على الكتابة، لا أحد يُحسن التعبير عن نزار، ولكنه يحسن التعبير عن نفسه وعنّا، فدونكم شعره ونثره فاقرؤوه، لتعلموا أي شاعرٍ وأديب ومؤرخ وعاشق وثائر هو نزار، وأي حضاريٍ ومثقفٍ وعاميٍ وابن بلدٍ هو نزار، ولن تملّوا من نزار لأنه ابن كلماتكم وابن مشاعركم وابن بلدكم وابن عروبتكم وابن ثورتكم وابن حبكم وابن عشقكم، وابن تلك البلاد التي تحبونها، ومنه ما يزال يفوح عبق الشعر، وعلى طريقته لا يزال يحاول الشعراء أن يحترفوا الكتابة.