يشغل الدستور بال السوريين في الفترة الأخيرة، حتى بعد فشل اجتماعات اللجنة الدستورية، لكن يبدو أن النقاشات حول الدستور مستمرة في أوساط المجتمع المدني، وأوساط المثقفين والعامة على حدٍ سواء.
فكرة ما يمكن أن يكتب في الدستور الجديد بدأت تشغل السوريين بشكل جاد، فالدستور لن ينظم علاقة المواطنين بالدولة فقط، أو علاقتهم بطريقة الممارسة السياسية، أو الحقوق والواجبات والحريات، فمع الأهمية الكبيرة لكل تلك الأمور، يبدو أن هناك ما هو أكثر أهمية، وهو كيف سينظم الدستور علاقة السوريين ببعضهم، والذي يمثل صلب العقد الاجتماعي في الدساتير.
القوانين والحريات والحقوق والواجبات جزء مهم جدًا لتنظيم هذه العلاقة، لكن التعريفات العامة والمبادئ الأساسية والميراث الثقافي والهوية الأساسية للشعب السوري هي العناصر الكبرى التي تشكل جذور هذه العلاقات، وبالاعتماد عليها سترتسم بقية الخريطة الاجتماعية للشعب السوري.
ربما أظهر اهتمام المجلس الإسلامي السوري بتعريف الهوية، وإصداره “وثيقة الهوية السورية” أحد أبرز الأحداث التي ستؤرخ مستقبلاً لبدء الاهتمام الحقيقي بهذه المسألة وموقعها من الدستور، وكيف أنها ستشكل أحد أهم موضوعات التفاوض بين السوريين فيما بعد.
بشكل شخصي اطلعت على ما يقرب من عشر ندوات أقيمت لمناقشة وثيقة الهوية السورية التي أصدرها المجلس الإسلامي السوري، وهذا يشرح بوضوح أمرين:
الأول: أهمية المجلس الإسلامي السوري كجهة مرجعية لعدد كبير من السوريين، ومعرفة التيارات السياسية والاجتماعية لهذا الأمر.
والآخر: أهمية موضوع الهوية وموقعها في العقد الاجتماعي السوري عند الفاعلين في المجالات السياسية والاجتماعية على الأقل، ومن يتصل بهم من عموم السوريين.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا
لستُ هنا بصدد بحث تعريف الهوية، إنما سأحاول تحديد أبعادها التي تمتد على ثلاث اتجاهات رئيسة:
البُعد الأول: يتصل بالتاريخ والمستقبل وبشخصية الفرد السوري، وهو بُعد ذاتي عمودي على رقعة العقد الاجتماعي، لأنه يرتبط بالناس قبل أن يرتبط بشكل العلاقات بينهم، ويشكل تعريف الشخصية التي كوّنت هذه المنطقة بشكل كامل حضاريًا منذ أن لعب العرب أول دور إنساني شامل لهم في تاريخ الحضارات منذ قرن ونصف تقريبًا.
البُعد الثاني: أساسي جدًا فهو يتعلق بسمات الشخصية المنتمية لهذه الحضارة دون أن تكون جزءًا منها، وهنا أقصد بوضوح غير المسلمين، الذين كانوا جزءًا أساسيًا لا يختلف بكل ما يظهر منه عن المسلمين الذين شكلوا جوهر الهوية، ونظموا العلاقات بين أبنائها.
اقرأ أيضاً: كيف ردَّ سكان الشمال السوري على إعلان النظام فتح معبر إنساني؟
البُعد الثالث: الأفكار الجديدة، التي وردت على هذه الحضارة منذ قرن تقريبًا من الزمان، وترعرعت حتى أصبحت أحد مكونات هوية فارقة في هذه الحضارة تنتمي إليها، لكن بشروطها لا بالشروط الثقافية المعتادة التي نشأ عليها المجتمع ككتلة صلبة متماسكة طيلة السنوات الماضية.
إن هذه الأبعاد ستفعل فعلها في تعريف الهوية الجديدة، وسيغلب بعضها على بعض، فإما أن يكون المستقبل هو نماء وامتداد للحضارة وإعادة إحياء لها، وإمام أن يكون الذهاب نحو بدايات حضارية جديدة لا يمكن أن نجزم بصلاحها، ولا بسوئها، إذ إنها أنماط غير مجرَّبة من قبل، وسيحكم على نجاحها وفشلها بشكل رئيس طريقة تقديمها للناس وعرضها عليهم.
في العادة تكون الهوية هي الجذر الذي يبنى من خلاله العقد الاجتماعي، لكن يبدو أننا في هذه التجربة سنعيد صياغة الهوية من خلال التدافع حول العقد الاجتماعي.
المدير العام | أحمد وديع العبسي