ء
في السنوات الأخيرة، شهد العالم تطورًا مذهلاً في مجال التكنولوجيا والاتصال الرقمي، لكنه حمل معه أيضًا ظاهرة خطيرة وهي الابتزاز الإلكتروني، التي هي شكل من أشكال الجرائم الإلكترونية وباتت تشكل مصدر قلق دولي كبير، حيث تستهدف أفراد المجتمع من مختلف الفئات العمرية والمهنية بأساليب وطرق مختلفة عابرة للحدود دون رقابة أو قيود.
من بين أكثر الجوانب المثيرة للقلق هو أن الإحصاءات تشير إلى أن أكثر من 80% من عمليات الابتزاز الإلكتروني لا يبلغ فيها الضحايا عنها، خوفاً من الفضيحة، هذه الظاهرة تعكس العار الاجتماعي المرتبط بالابتزاز، خاصة حين يتضمن تسريبات أو تهديدات تتعلق بمعلومات شخصية أو صور حساسة، حيث الخوف من نظرة المجتمع، والخشية من تداعياتها على الأسرة والأفراد مما يجعل الضحايا يفضلون الصمت، وهو ما يتيح للمبتزين التمادي في جرائمهم، في هذا السياق، يمكن اعتبار الفجوة القانونية والاجتماعية في معالجة هذه الجرائم عاملاً مهمًا وراء انتشارها.
العالم الرقمي هو سيف ذو حدين، يمنحنا إمكانيات لا حدود لها لتطوير حياتنا وأعمالنا، لكنه يحمل أيضاً تحديات خطيرة تهدد أجيالاً بأكملها. في ظل الوضع الراهن في المناطق المحررة أصبح من الصعب على الكثيرين الحصول على فرص عمل تلبي احتياجاتهم الأساسية، ومع تراجع المساعدات الإنسانية، اتجه البعض نحو التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة جديدة للكسب.
“العالم الرقمي وخوارزميات التطبيقات“
التطبيقات المختلفة مثل “هلا شات” (Halla Chat)، “زين يويو” (Zen YooYoo)، “بيت الكل” (Beitalkal)، “بال توك” (Paltalk)، “بيجو لايف” (BIGO LIVE)، “يو لايف” (U LIVE)، و”ميكو” (Mico) تتيح هذه التطبيقات للمستخدمين فرصة التواصل الصوتي أو النصي في غرف دردشة جماعية، حيث يمكنهم التفاعل في الوقت الفعلي، ومشاركة الأفكار والاهتمامات، من الناحية المادية تقدم التطبيقات ميزة “الهدايا الرقمية”، وهي عنصر تسويقي، حيث يمكن للمستخدمين شراء هذه الهدايا وتبادلها فيما بينهم، يمكن أيضًا تحويل هذه الهدايا الرقمية إلى أموال حقيقية، مما يمنح البعض فرصة لتحقيق دخل إضافي عبر استلام الهدايا وتحويلها إلى أموال عبر أنظمة الدفع الإلكترونية.
يتم الترويج لهذه التطبيقات بشكل مكثف عبر منصات مثل YouTube وFacebook، وغالبًا ما يظهر الترويج بطريقة غير مباشرة عن طريق المؤثرين الرقميين الذين يشيرون إلى الميزات الترفيهية لهذه التطبيقات ويقدمون هدايا مجانية لجذب المستخدمين الجدد
توفر هذه التطبيقات فرصًا للمستخدمين، خاصة العاطلين عن العمل، لكسب المال عبر الإنترنت، تتميز بكونها سهلة الاستخدام، وتقدم ثلاثة أدوار رئيسية للمستخدمين:
“الداعم” هو من يدعم العملاء ويحقق أرباحه مباشرة من مطوري التطبيق، يرفع مستواه داخل “الرومات” للحصول على تعويض عمّا ينفقه.
الوكيل “يدير” التطبيق من الداخل” ويعمل على جذب العملاء، كما يرشدهم لكيفية الاستخدام الأمثل للتطبيق الوكيل هو الوسيط بين العملاء والمطورين، حيث يتولى تسليم الأرباح.
“العميل” هو المستخدم الذي يسجل الدخول إلى التطبيق، ينفذ المهام المطلوبة، ويحقق الربح.
اقرأ أيضاً: صناعة الوسائط المتعددة.. ست أدوات مجانية للذكاء الاصطناعي لا غنى عنها
مكاتب شراء الهدايا تعمل كوسيط بين المستخدمين والتطبيقات، حيث تحول الهدايا الرقمية التي يتلقاها المستخدمون إلى سيولة مالية عبر أنظمة دفع مثل PayPal أو التحويلات البنكية، مقابل عمولة تصل إلى 20% أو أكثر هذه المكاتب، بالتعاون مع وكلاء معتمدين، تضمن تحويل الأموال بسلاسة، مما يحقق لهم عمولات إضافية. هذا النظام يعزز من انتشار هذه التطبيقات حيث يوفر للمستخدمين وسيلة لتحويل الهدايا إلى نقود حقيقية، وهو ما يجعل هذه المنصات أكثر جاذبية في المناطق التي تفتقر إلى وسائل الدفع الإلكتروني المنظمة مثل المناطق المحررة.
يلعب “الداعم” دورًا مهمًا في تحفيز المستخدمين على التفاعل والتواجد لفترات أطول على المنصة، حيث يقدم الهدايا الرقمية مقابل التفاعل أو المحتوى، أحيانًا تنشأ علاقات مشبوهة بين الداعم والمستخدمين، مما يزيد من احتمالات الابتزاز الإلكتروني أو الضغط العاطفي.
يعتمد الداعمين على شحن أرصدتهم داخل التطبيق من خلال حسابات بنكية، إلا أن هذا الخيار غير متاح للقاطنين في الشمال السوري، حيث يقتصر على صالات الإنترنت المحلية، في نهاية كل شهر، يتلقى كل مستخدم ما يُعرف ب “الراتب الشهري”، وهو قيمة الهدايا التي جمعها، تقوم الشركة المصممة للبرنامج بإرسال المستحقات للوكلاء حسب المناطق الجغرافية، ليتم توزيعها عبر حوالات شخصية في المكاتب المحلية، ومن ثم يقوم هو بدوره بتوزيع ما يسمى “الراتب الشهري” على المستخدمين.
“التطبيقات كمصدر دخل: وسيلة للخداع والاستغلال“
تقول “أم حيان” (50 عاماً)، التي نزحت من منطقة الغاب إلى مخيمات شمال سوريا: “كانت المساعدات الإنسانية تكفينا في البداية، لكنها تراجعت، فاضطررت لاستخدام برنامج “هلا شات” كمصدر دخل. لكن بدلاً من أن يكون مجرد وسيلة لجني المال، تحول إلى باب لمطالب غير لائقة، حتى وصلت الأمور إلى ابنتي الصغيرة التي حاول أحدهم ابتزازها للحصول على صور غير لائقة”.
تجلس (لمياء، 22 عامًا) من ريف حماة على شرفة منزلها وحيدة، بعد أن كانت لديها أحلام وأصدقاء وحياة كاملة تعيشها. تقول لمياء: “كل ما أردته هو أن أعيش حياتي كأي فتاة أخرى. كنت أدرس وأحلم بمستقبل أفضل، لكن الفقر لم يترك لنا باباً سوى طرقات صعبة. أصرّت صديقاتي على تنزيل برنامج “يا هلا شات” على هاتفي، لم أكن أعلم ما سيحدث بعد ذلك. تعرفت على شاب وظننت أنني وجدت فيه الراحة والهروب من واقع صعب، لكنه كان سراباً. استغل ضعفي وحاجتي، وتماديت معه حتى أرسلت له صوري في لحظات ضعف.
لم أكن أعلم أن تلك الصور ستدمر حياتي. اكتشف أخي ما كنت أخفيه، وحُرمت من دراستي ومن حياتي. أصبحت أسيرة بين جدران منزل لا يرحمني، ليس بسبب خطئي فقط، بل لأنني كنت ضحية مجتمع لا يرحم الأخطاء”.
من جهة أخرى، يوضح “أبو عبده” (28 عاماً): “دخل العديد من الشباب هذه البرامج بحسن نية بهدف كسب المال في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. لكن تلك البرامج تحولت إلى وسيلة استغلال للبعض، سواء كانوا فتيات يعرضن أنفسهن للحصول على الدعم أو أسر تجبر أطفالها على التسول الرقمي”.
قصة “ميس”، التي فقدت والدها في الحرب وتعيش مع والدتها وأخواتها، بدأت العمل على تطبيق “زين لايف” سعيدة بفرصة الحصول على راتب، لكن الصدمة كانت في طبيعة المطالب التي يواجهها المستخدمون، حيث لا يُطلب منهم مجرد المشاركة، بل يُستخدمون كأدوات للابتزاز أو لأغراض غير أخلاقية.
“آية”، النازحة من ريف إدلب الجنوبي والمقيمة في بلدة دركوش، شاهدة على ذلك. تقول: “لم أكن أظن أن حياتي ستصل إلى هذا الحال، زوجي أجبرني على التحدث مع رجال غرباء لاستغلالهم مادياً، وكان يتابعني وأنا أفعل ذلك وكأنه أمر طبيعي. أصبحت أعيش في خوف دائم، ولا أملك الهروب أو حتى القدرة على الرفض”.
في الضفة الأخرى، كما قصة “آية” نجد رجالاً يستغلون النساء لتحقيق مكاسبهم. حيث تُجبر الزوجات على التحدث مع رجال غرباء بحضور أزواجهن، فيتحول الحوار إلى تجارة باردة تسلب المرأة كرامتها.
“الابتزاز الإلكتروني والجانب المظلم“
رغم ما تقدمه هذه التطبيقات من ترفيه وفرص للتواصل، إلا أن استخدامها غير المنظم في المناطق المحررة، مثل شمال سوريا، يفتح الباب أمام استغلالها لأغراض غير مشروعة مثل الابتزاز الإلكتروني، مع غياب الرقابة الرسمية على نشاطات المستخدمين داخل هذه التطبيقات، يجد المبتزون أرضًا خصبة لاصطياد الضحايا، خاصة في ظل سهولة اختراق الحسابات الشخصية والحصول على معلومات حساسة قد تُستخدم للضغط على الأفراد ماليًا أو عاطفيًا.
تعتبر هذه المشكلة أكثر تعقيدًا في ظل عدم وجود جهات حكومية أو هيئات تنظيمية تتولى مهمة متابعة هذه التطبيقات، مما يجعل المستخدمين في وضعية ضعف أمام من يستغلون هذه الفجوة القانونية، هذه النقطة بالذات تدفعنا إلى التساؤل حول مدى تأثير غياب القوانين الناظمة للفضاء الإلكتروني في المناطق التي تعاني من اضطرابات سياسية واجتماعية، كما هو الحال في شمال سوريا.
“الجانب القانوني والاجتماعي“
على الرغم من أن الابتزاز الإلكتروني ظاهرة متزايدة في مختلف أنحاء العالم، إلا أن الظروف الخاصة في المناطق المحررة تزيد من خطورتها، فالأفراد الذين يعيشون في هذه المناطق قد يفتقرون إلى الوعي الكافي حول كيفية حماية أنفسهم من المخاطر الإلكترونية، كما قد لا يجدون الدعم القانوني اللازم للتعامل مع هذه الجرائم، وهذا الغياب التنظيمي يعزز انتشار الابتزاز ويزيد من معاناة الضحايا.
علاوة على ذلك، فإن الكثير من المستخدمين، خصوصًا الفئات الشبابية، ينجذبون إلى هذه التطبيقات دون وعي بالمخاطر المحتملة، مما يعرضهم للاستغلال الإلكتروني، ضعف الوعي والرقابة يدفعنا إلى الإقرار بأهمية التوعية والتعليم الرقمي في مواجهة هذه الظاهرة، يجب أن تتوجه الجهود نحو نشر الوعي بالممارسات الآمنة عبر الإنترنت، وتوفير الدعم للضحايا الذين يتعرضون للابتزاز.
“البرامج ليست سوى أدوات“
يخبرنا (أحمد بربور) – خبير تقني – مدير مؤسسة نافذة إن البرامج ليست سوى أدوات، فالفساد والسلوكيات السلبية تعود في الأساس إلى القيم والأخلاق التي يحملها الأفراد.
يجب أن تكون هناك رقابة من قبل المطورين وصنّاع السياسات لضمان أمان المستخدمين، ولكن في النهاية، يعتمد سلوك الأفراد على أخلاقهم. الفساد موجود في النفوس، ولا يمكن أن يُعزى فقط إلى التكنولوجيا.
خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي قد تعزز في بعض الأحيان المحتوى المثير للجدل أو السلبية، مما يؤدي إلى تفشي بعض السلوكيات. ولكن هذه الخوارزميات لا تخلق الفساد بحد ذاتها، بل الأفراد هم من يختارون كيفية استخدام هذه المنصات.
الوضع المادي السيئ، الإهانات الزوجية، والعلاقات السلبية تسهم جميعها في تدهور الأخلاق. هذه الظروف قد تدفع بعض الأفراد إلى اتخاذ قرارات مدمرة أو البحث عن طرق غير مشروعة لكسب المال، مما يزيد من تفاقم المشكلة.
الجهل وقلة التعليم يلعبان دوراً كبيراً في انزلاق بعض الأفراد إلى الفساد من خلال التطبيقات والبرامج لكن يجب التأكيد على أن القيم والمبادئ هي التي تحدد سلوك الإنسان، وليس فقط الظروف المحيطة به.
إذا تأملنا هذه القصص، نجد أن التكنولوجيا التي كان يفترض أن تكون أداة للمساعدة في الأوقات الصعبة أصبحت سبباً في تفاقم المعاناة، لذلك يجب أن تتدخل المؤسسات الإنسانية والحكومات لفرض رقابة صارمة على هذه المنصات وتوفير بدائل آمنة للشباب والعائلات.
على المدى الطويل، لابد من البحث عن حلول جذرية تعالج الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تُعاني منها هذه المناطق، عبر توفير فرص عمل كريمة وبرامج تعليمية وتدريبية تُمكِّن الشباب من بناء مستقبل أفضل دون اللجوء إلى هذه الوسائل، كما يجب أن نعمل على رفع الوعي لدى الأسر حول مخاطر هذه التطبيقات وكيفية حماية أبنائهم من الوقوع في فخاخ الاستغلال.