اقتحام عقبة الحريات

أ.عبد الله عتر

 

 

فك رقبة.. ذلك هو عنوان القضية الجوهرية التي كانت “البلد” تحتاجها للخروج من الظلم والخوف والكذب والجهل بالدين والدنيا.

الظلام يخيم فوق أرجاء البلد، كل شيء فيها يتعرض للاضطهاد والملاحقة واستباحة الحقوق والكرامة، حتى رسول الله.. انتشر هذا البيان الإلهي في العلن بين بسطاء الناس وأصحاب النفوذ: ((لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ۝ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ))، شرح المفسرون معناها أن طغاة البلد “مكة” يستحلون حرمة الرسول ومن معه بالإيذاء والإهانة والتهجير والقتل، رغم أنهم يحرمون أن يقتلوا بها حيواناً! (الطبري والقرطبي والنسفي).

لم يقف الخطاب هنا.. بل تقدم للأمام نحو خطاب التغيير وإيجاد حلول تقتحم العقبات الصعبة، ليس عقبات الأفراد فقط بل عقبات البلد أيضًا، فموضوع السورة هو “البلد” بأكملها: ((فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ)).

 

العقبة الأولى أمام البلد:

العقبة الأولى التي يجب خوضها وعبورها هي عقبة الحريات “فك رقبة”.. شرح علماء العالم الإسلامي أن المقصود بفك الرقبة هو تحرر الناس على ثلاثة مستويات (أطلقوا عليها: (الحرية الصغرى، والوسطى، والكبرى).

1-الحرية الصغرى:

تحرير الإنسان من تسلط الغير؛ ليكون قادرًا على التصرف والعمل والسفر والزواج وتولي الولايات العامة، والخطوة الأولى لهذا عتق العبيد من الرق (الطبري والقرطبي وابن عابدين).

على مستوى البلد يعني هذا زيادة عدد الأحرار وتوفير القدرات والإمكانات ليمارس الأحرار حريتهم، ذكر المفسرون مثلاً أن فك الرقبة يتضمن تخليص شخص من دين يعجز عن سداده، فهذه قدرة مالية تساعده على توسيع حريته.

توافقات الأطراف في سورية على خرائط أنقرة

أكدت ثقافة العالم الإسلامي على هذا المستوى بأن “الحرية أقوى الحوائج، وهي رأس مال الحي في أحكام الدنيا”، وأن “الحرية والعقل؛ النساء فيهما مثل الرجال”، و”الفلاح حرٌّ، لا يد لأحد عليه وهو أمير نفسه” (الزمخشري وعلاء الدين البخاري والسبكي).

2-الحرية الوسطى:

تشغيل حريتنا العملية في أداء الأعمال الصحيحة والمنتجة من عمارة الحياة وعبادة الله، فالحرية الإيجابية هي التي تكون موجَّهة نحو المصالح الحقيقية، هذا المستوى من الحرية يصنع تغييرًا ملموسًا في البلد، وينبغي فعله على النطاق الفردي والنطاق الجماعي ضمن مؤسسات وقوانين وأعراف.

3-الحرية الكبرى:

تحرير النفس من قيد الهوى والتعلق بالسِّوى، هذه حرية روحية من الطراز الرفيع، أن تتحرر النفس من اتباع أهواء ضاغطة وشهوات جارفة، شهوة الاستهلاك مثال جيد على ذلك.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

 

وأن تتحرر النفس من التعلق بأمور الدنيا تعلقًا يقيد قرارها وحركتها نحو الخير والحقيقة، بل تتعلق بالله وحده ولا تتعلق بسواه، وهذا ما يوفر للناس “الأمل الفسيح” لأنه متعلق بالله الذي لا يزول، ويجعل الأمل وضعية اجتماعية تحرك الأفراد والنظم وطريقة العيش وتدفع البلد أن تخرج من ظلامها (التستري وابن عجيبة والماوردي وإسماعيل حقي).

لا يمكن تغيير البلد إلا باقتحام عقبة الحريات، ولا يمكن اقتحام عقبة الحريات إلا ضمن منظومة اجتماعية صاعدة تربطها شبكات تفاهم وتعاون وتراحم.

هذه هي الهدية الثمينة التي تقدمها سورة البلد للعالم حين تصف المؤهلين للعبور بالبلد نحو مستقبل جديد: ((تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)).

لعل سورة البلد تحكي قصة الكثير من بلاد العالم اليوم.. خاصة بلادنا.

أ. عبد الله عترابن عابدينالبلدالحرياتالحريةالحرية الكبرىالطبريالقرطبيمعنى الحرية