في حلقة هذا الأسبوع من برنامج المقابلة الذي يقدمه الإعلامي السعودي علي الظفيري على شاشة الجزيرة، استضاف المفكر الفلسطيني “جوزيف مسعد” وفي الجزء الثاني من اللقاء يتحدث مسعد عن أمر في غاية الأهمية يشرح من وجهة نظره سبب فشل الثورات العربية (الدقيقة 28 حتى 30) يتلخص هذا السبب في مقولة واحدة، “الاقتصاد أولاً” ثم تأتي السياسة، على عكس الرائج في مقولاتنا النظرية أن السياسة أولاً، ثم يتم تحقيق العدالة الاقتصادية.
ومن وجهة نظر شخصية جداً .. أرى أنني أتفق تماماً مع كلام الدكتور مسعد، وقد كنت كتبت مقالاً منذ سنة تقريباً يتحدث عن أبرز مظاهر هذه المشكلة والتي ذكرها أيضاً “د. مسعد” في المقابلة، وهي مشكلة الانتخابات في الثورة، تحت عنوان (الانتخابات.. تجربة الثورات الفاشلة) شرحت فيها أن الثورة تحتاج استقراراً وذاكرة تمكنها من تحقيق أهدافها، وهو ما لا توفره تجربة تداول السلطة في سنوات قليلة.
المشكلة الكبرى التي أدت لإجهاض الثورات في البلدان العربية أنها ذهبت لتحل مشكلة النخبة لا مشكلة الناس، فمشكلة الناس الحقيقية هي في التوزيع العادل للثروة، في تحقيق الأمن الغذائي للشعوب، في تحقيق العدالة الاقتصادية، وإيقاف نهب ثروات الشعوب ومستقبلها من قبل السلطة الحاكمة، هذه المشكلة الأساسية التي تجاهلتها النخبة الثورية فانفصلت عن الناس وأوجاعهم، وراحت لتحل مشكلة أخرى (هي مشكلتها الخاصة) في تداول السلطة وفي انتخاب الحاكم من أول ساعة في الثورة!!، هذه المشكلة التي لم تكن موجودة حقيقة، بل واعترف بعدم وجودها الكثير من المثقفين العرب، عندما قالوا من البدايات، إن الحكام الطغاة لو استعملوا توزيع الثروات والمكافآت الاقتصادية لشعوبهم بدلاً من القمع والقتل لكانت معظم الثورات توقفت من البداية، ولكن الأنظمة القائمة في أساسها على الاستغلال عجزت عن هذه المعادلة، كما عجز عنها الثوار، مما أدى إلى تفجر الأوضاع بشكل كبير في المنطقة.
الشواهد على هذا الكلام كثيرة جداً، وأكثر من أن تحصى، فالدول ذات النظام الأميري والملكي في المنطقة العربية والتي تحقق لشعوبها مقداراً مقبولاً من الرفاه الاقتصادي لم تقع فيها ثورات مماثلة لتلك الدول القائمة على نهب الشعوب واستغلالها، كما أنّ تصرّف بعض هذه الدول تجاه بعض الحركات الشعبية بطريقة اقتصادية جعلت هذه الحركات محدودة جداً، سرعان ما انفض عنها غالبية الناس وبقيت حركات نخبوية منبوذة في العموم، أو في أحسن الأحوال ليست ذات أولوية للمواطن لكي ينخرط بها.
الشعارات التي حملتها أكبر ثورة في المنطقة (ثورة مصر) كانت تركز على الجانب الاقتصادي بوضوح كبير (عيش، حرية، عدالة اجتماعية) فمفهوم الحرية كان واضحاً جداً في هذا الشعار، فهو يقع بين الأمن الغذائي ودولة الرفاه، الحلول الاقتصادية أولاً ثمّ الحرية، ثمّ العدالة الاجتماعية التي تصل بالشعب الشبعان إلى السيادة والرفاه وليس بالشعب الجائع.
الشرارة التي فجرت الأوضاع في تونس تنتمي لبعد اقتصادي شديد الوضوح، الفقر هو النار التي أشعلت كل شيء في المنطقة. كذلك الأمر في لبنان والعراق والجزائر واليمن وليبيا وسورية، بغض النظر عن الشعارات التي لا يزال السوريون يتباهون بها ويقولون إن ثورتهم لم تكن ثورة جياع!، هذا كلام نخبوي مقيت ومتعالٍ ويرضي الذات الثورية المتورمة، كانت الثورة وما زالت في معظم أبعادها على الأقل ثورة جياع، لأنها ثورة ضد الاستغلال والسرقة والنهب وتحويل سورية إلى مزرعة لآل الأسد، وإذا لم تكن ثورة جوع مباشر، فهي ثورة أناس أدركوا أنهم مشروع جياع في المستقبل القريب، وهذا لا ينفي أبداً وجود أبعاد أخرى للثورة (الأبعاد الدينية والاجتماعية، وربما السياسية بدرجة محدودة تمثلها النخبة، وربما هناك بعد انتقامي عند بعض من انخرطوا بالثورة، يمثل الثأر لأجداث الثمانينات السابقة.
بعيداً عن الاستطراد، عندما لم تفهم النخب الثورية هذه المعادلة كان من السهل الانقلاب عليها باستعمال الشعوب ذاتها، اتجهت النخب الثورية في أوضح تجربتين (مصر وتونس) لحل المشكلة السياسية دون القدرة على التدخل الاقتصادي الفعّال (لأن تلك النخب لا تملك الأدوات اللازمة لهذا التدخل)، مما مكّن الحرس القديم من إعادة تنظيم صفوفه، وتسليط الدعاية الاقتصادية على النخب الثورية التي وصلت إلى السلطة، فاستطاعت اسقاطها من جديد، بكثير من الضخ الإعلامي وكثير من القمع، والكثير أيضاً من الفشل الاقتصادي الذي جعل الشعوب غير معنية بالدفاع عن النخب الثورية لأنها لم تقدم بديلاً أفضل يمسّ حياتها بشكل مباشر. مما سهل مهمة الانقلاب وعودة الأنظمة السابقة في حالة أسوأ مما كانت عليه.
قد يقول أحدهم إن الفشل الاقتصادي للثورة ليس هو من أجهض التجربة الثورية في الحكم فحسب، وإنما عدم امتلاك الثوار لأي قوة عسكرية أو قوة مواجهة، لعب دوراً مركزياً في ذلك، وهذا صحيح ونحن لا نتجاهله، ولكن من الطبيعي للدول التي قامت ثوراتها على أساس من السلمية أن لا يمتلك الثوار نفس قدرة البطش الموجودة عند النظام القديم، لذلك كان يجب أن تكون خيارات النخبة الثورية في الحكم ذات بعد اقتصادي إصلاحي اجتماعي بحت، لا ذات بعد سلطوي، وهذا ما يعزز صحة النظرية، لأن وجود القوة لو توفر فإنه سيخلق الحرب لا الرفاه، وبالتالي إضرار أكبر بحياة الناس، وانفضاض أكبر عن فكرة الثورة، خاصة إذا كانت مصيبتها بالقدرة على الحرب وعدم القدرة على دعم معيشة الناس ومساعدتهم، فبالتالي تكون الثورة قد جلبت كل الفظائع والمهالك على الناس.
في النهاية أريد أن أستعيد الكلمات التي بدأت بها هذا المقال، الاقتصاد أولاً، وتحقيق العدالة الاقتصادية هو الطريق الوحيد لتحقيق العدالة السياسية، لأن التفاوت الاقتصادي سيجعل التمثيل السياسي مرهون بأصحاب الثروة لا أصحاب الشرعية، لذلك على القيادات الثورية أن تفكر بحلول حقيقية على الصعيد الاقتصادي تجعل الناس يلامسون كونها تجربة أفضل، أمّا الفوضى والشعارات وابتعاد الثوار عن هموم الناس وبرطلتهم غير المفهومة في السياقات السياسية والديمقراطية، ستجعلهم أولى ضحايا هذه البرطلة.
والعدالة الأكثر أهمية عند الناس هي العدالة الاقتصادية، لذلك من الطبيعي أن يبدأ الناس بالحقد على النخبة الثورية التي ضحت بهم، ولكنها تعيش أوضاعاً اقتصادية أفضل ولا تشاركهم المعاناة ولا الثروة.
الحديث يطول جداً في سرد الأمثلة والوقائع، ولعل القارئ يدرك منها أكثر مما يمكن أن يكتب، لأنه يعايش تلك الظروف والحقائق، … ما يهمنا في النهاية العمل على تغيير هذا الواقع وليس الحديث عنه فحسب