قد يبدو العنوان غريباً بعض الشيء، إلا أنه أصبح ظاهرة متجذرة في مواقع التواصل الاجتماعي، حتى صارت الاقتباسات جزءاً أساسياً وتكوينياً من هذه الأخيرة، فالكثير مما ينتشر عليها هي اقتباسات. اقتباسات من كتب، من روايات، أفلام، دراما، مشاهد مسرحية، خطابات، قصائد والكثير الكثير من الحكم والأمثال والعبارات النفسية الشهيرة وغير الشهيرة، وما يكتب على السيارات، ومن أحاديث خاصة وعامة وأدعية، وأسرار، حتى الأسرار هناك من يقتبس منها بحيث يومئ لها أمام العامة دون أن يكشفها …
إن طبيعة المرور السريع في وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الاقتباسات لغتها المفضلة، الأكثر متابعة وإعجاباً ومشاركة ودوراناً بين الناس، وصار فن الاقتباسات وخصوصاً الرومانسية منها وتلك المتعلقة بالسوداوية والحكمة والأدعية، هو فن جلب المتابعين، سواء مكتوبة أو مصممة على شكل صور.
يتداول الناس هذه الاقتباسات ويجعلونها جزءاً من حياتهم، ويحاولون أن يصدّروها للتعبير عمّا في أنفسهم، وعن رؤيتهم للحياة والعالم، وعن فهمهم للواقع من حولهم. وعلى ما يراه الناس فيها من إيجابية وتسلية، الكثير من السلبية التي تتسلل للشباب من خلال انتشارها الكبير على وسائل التواصل دون أن نشعر.
معظم الاقتباسات المنتشرة لها أربع صفات رئيسة، إنها (إنشائية، حاسمة، مختزلة ومتطرفة)، فهي تعبر عمّا يشعره صاحبها في لحظة معينة وموقف معين لا يصح أن ينسحب على الحياة، غير معللة الأسباب، لأنها غالباً تصدر عن الشعور، وهي تتميز بالحسم، إن كذا سيؤدي لكذا، فمثلا (الاستماع للقلب سيحبط العزيمة) هذا اقتباس يمجد العقل في لحظة معينة، ولكنه يجعل القلب في موقف سلبي ويحسم موقفنا منه، وهو متطرّف في نتيجته، والتطرف المقصود هنا (عدم التوازن)، فلا يمكن أن يكون الاقتباس جذاباً إذا كان طويلاً ومعلّلاً. ومعظم الاقتباسات تكون في اتجاه واحد (الخير الشر، اليمين اليسار، الحق الباطل، العلم الجهل) تجنح بطبيعتها للتطرّف لجهة على حساب غيرها، ذلك لأن معظمها وليدة مواقف قاسية، أو هي مقولات تقريرية بعد تأمل طويل، مما يجعل صياغتها نهائيةً وحاسمةً وغير قابلة للنقاش.
هذه طبيعة الاقتباسات، وهو ليس عيب فيها، فالكثير منها رغم طبيعتها هذه يكون مفيداً، والكثير أيضاً هو الذي يجعلنا دائماً مشحونين عاطفياً، نجنح نحو التطرف والحسم واللاعقلانية، نقدم أنفسنا بعبارات مختزلة لا تصلح وتجارب الحياة التفصيلية، فتورث الكآبة والإحباط، لأن الحياة لا تشبه ما تعودنا عليه من هذه الاقتباسات السريعة والسهلة، إنها تشبه أكثر تلك الكتب التفصيلية التي تم انتزاع الاقتباس منها والتعامل معه بعيداً عن محيطه الذي أنتجه.
ومع الوقت يخلق الاقتباس أناساً يشبهونه غير قادرين على التعامل مع محيطهم الاجتماعي بهدوء ورويّة، وإنّما بكثير من الحماس والاختزال والمباشرة والصلابة، التي ربما نتكسر عليها نحن لا الأشياء التي نواجهها.
نحن قوم مسكونون بحب التراجيديا والمأساة والشعور بتعاطف الناس واهتمامهم .. مسكونون برومانسية الأفلام والدراما، مفتقدين عموماً إلى لحظات حب حقيقي، ذلك أننا نعيش في واقع مليء بالقهر والطغيان، ولا غرابة فيما تجنح له أنفسنا مما يعبر عن ذلك الواقع، نختصره ونختزله ببعض ما يتوارد بيننا من اقتباسات .. فيزداد الأمر عمقاً وتطرفاً في أنفسنا، وتزداد الحياة اختزالاً واختصاراً، حتى وكأن الاقتباسات هي النص .. وجميع تفاصيل الحياة الأخرى ومتعتها هي الحاشية أو الهامش، ولا ريب أن الإحساس بحياة الهوامش تلك أزمة أخرى تجعلنا أكثر جنوحاً للمأساة وطلباً للتعاطف، وأكثر إعجاباً وتفاعلاً مع ما يعبر عنها.
ما يحتاجه الشباب أو من يدمنون الاقتباسات ليس التوقف عن تعاطيها ونشر الكلمات الجميلة والاقتباسات المفيدة والمقولات المحفّزة، ولكنهم يحتاجون للتعامل معها كمواقف عابرة، ككلمات ملهمة للحظات، لا كأسلوب حياة دائم ومستمر، وإلا فإن الهشاشة التي تنطوي عليها معظم هذه المقولات (إذا ما تمّت مناقشتها على مهل)، ستنتقل إلى من يتناقلها، ليصبحوا كيانات هشة ومتعبة ورومانسية وحالمة وسوداوية وتراجيدية، من السهل تحطيمها في أي وقت، وخداعها ببعض الجمل الإنشائية المرتبة والمزركشة.