يقول جوليان ماركوني “إن اللون الأحمر مهما نظرنا له من جهات مختلفة سيبقى أحمراً”
لا تتغير حقائق الأشياء بسهولة على حدّ وصف الأديب السويسري جوليان ماركوني في روايته “الظلال المعتمة” فهي لصيقة بها وجزء من ماهيتها، وتبقى الحقيقة ناصعة جداً مهما حاولنا أن نعبث بها، واجتهدنا في زوايا النظر والتفسير، … ستعود في النهاية لتفضح قصور عقولنا وتظهر بالشكل الذي يعرفه الجميع ببساطة وبداهة.
في مقال سابق عن الاقتباسات تحدثت عن أثرها السلبي في حياتنا عموماً وعن أسباب التعلق بها، واستعمالها كلغة في عصر وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عما يجول في خواطرنا، ولا أريد التكرار هنا، وإنما أريد المتابعة نحو محاولة فهم كيف يكتسب الاقتباس قيمته، ولماذا نصرّ على إحاطة حياتنا باقتباسات نوزعها حولنا يميناً وشمالاً لنقول أشياء نحن لا نقصدها تماماً، وقد نكون لا نفهمها تماما في ذات الوقت!
يمنح الاقتباس صاحبه هالة حول الاطلاع والمعرفة والعمق والثقافة، فغالباً ما تكون الاقتباسات هي لأدباء أو شعراء أو علماء مهمّين أو شخصيات مؤثرة، تجعل لكلماتهم وقعاً مميزاً مهما كانت بسيطة وعفوية، ونحن نستخدم هذه العبارات دون تفكير غالباً، لأنها تؤدي لنا وظيفة تعبيرية في اللحظة التي يظهر فيها الاقتباس، ووظيفة برستيجيّة عندما نُلحق الاقتباس بالاسم الذي يعطيه قيمته ويُدلل على سعة المعرفة وعمق الإحساس والفهم الذي نتمتع به.
ولكن في الحقيقة لغة الاقتباسات لغة مختزلة وفوضويّة وغير عاقلة وغير مناسبة عموماً للحياة، فهي جزء من كلّ، وربما تتبع موقف طارئ لم يتجاوز وقت نشأته لحظات قليلة، وكذلك ربّما لم يتجاوز برهة عند استخدامه للمرة الثانية، وبالتالي فهي لغة قاصرة وسلبية، وتدفع بنا إلى عالمها المليء بالاختزال واللاقيمة، وتجعلنا أسرى لعالم يشبه إلى حدٍ بعيد العالم الافتراضي (الميتافيرس) عالم نتخيله نحن، ولكن وفق قواعد تُحدّدها الأكواد البرمجية (الاقتباسات) التي نؤمن بها ونستهلكها.
لا تمنحنا الاقتباسات فرصة للإحساس بالتفاصيل، لأنها في الغالب (صور لفظية) على طريقة الذكاء الاصطناعي، تبني عالمها الخاص في خيالاتنا، وتجعلنا نقفز وراء (الحكمة) المتوهمة في تلك اللغة البراقة، متجاهلين الحقائق التي سنتعثر بها في الطريق، لتخلقَ جيلاً مملوءاً بالخيبة والصدمة، فالعالم الحقيقي أكثر من مجرد اقتباس عابر ينتهي في سطرين من الحروف المتراصة بعناية، أو تلك الجمل الرديئة التي تكسب شهرتها نتيجة الإضافة لاسم أو موقف (كما في الأمثلة المطروحة ضمن صورة المقال). وسرعان ما نتقن الدور ونعيش تلك الخيبات والصدمات في قوالب جديدة من الاقتباسات التراجيديّة المعلبة، والجاهزة لاستيعاب الأحزان والآلام التي نود التعبير عنها.
في التجربة التي بدأت بها المقال قمتُ بتطبيق معايير (الاقتباس البيّاع) على جملة خاوية وفي غاية السذاجة والبساطة، ولا تملك أي قيمة معرفية، ولكن إضافتها لكاتب أجنبي ولرواية تحمل اسماً محفزاً للخيال (هو ساذج أكثر من الاقتباس نفسه)، ثم محاولة إضفاء التفسيرات واقتناص الحكمة من تلك الكلمات الفارغة، هو ما أعطاها قيمة في بعض نفوس القراء، مع العلم أنني اخترعت اسم الكاتب توّاً، ووضعت له أول جنسية خطرت في بالي، ثم رصفت كلمات لا معنى لها أبداً، فأين الاكتشاف الرهيب في كون اللون الأحمر سيبقى أحمراً، والأزرق كذلك!!!، ثمّ هل هناك ظلال غير معتمة!! مع ذلك يبدو عنوان الرواية المتخيّلة جذّاباً رغم سطحيته!!
السياق هو من يفعل فعله في الدلالة، لا العبارات، لذلك فالأهمية الحقيقية هي للسياق الذي يعطي الأشياء قيمتها، ما يوضع موضع الحكمة يبدو حكيماً مهما كان ساذجاً، وما يوضع في موضع الاعتياد سيبدو تافهاً أو عادياً مهما كان مبدعاً وحكيماً، فغالباً أنت لن تحفل للكلمات المهمّة التي ستسمعها يومياً من أستاذ مدرسة يحضّ فيها طلابه على المثابرة والعمل والاجتهاد، لأن الاعتياد يجعلها بسيطة ومحدودة الدلالة، ولكنك ستجد عبارة مثل، “الظل يُخفي تحته الأشياء” عبارة مبدعة عندما ترد في سياق أدبي ولأديب معروف، رغمّ أن هذه الحقيقة ليست بحاجة لاكتشاف!!!
إن الاستنتاج الذي أريد الوصول إليه هو أننا كائنات سياقية، نشبه اللّغة إلى حدّ بعيد في تكويننا البشري، فنحن لسنا أبناء اللحظة المؤقتة والعابرة التي نعيشها، وإنما نحن تاريخ من التجارب والعمل والمعرفة ، والتطلّع للمستقبل، وقيمتنا تنبع من هذا السياق التراكمي، لذلك لا تبدو الاقتباسات لغة موفقة للتعبير عمّا نشعر به أو نريده دائماً، خاصة عندما تكون حاسمة، تنتمي لسياقات وهمية غير ناضجة، وغير مفهومة.
المشكلة في التعود على الاقتباسات، لأنها بطبيعتها البسيطة والسهلة تصبح حاكمة، ندمن التعامل بها، والتعبير عن احتياجاتنا النفسية والاجتماعية من خلالها، وهي تُورثنا ذلك الشعور المأساوي بالنهاية القريبة، والخيبة المفرطة، وكأن كلّ السياقات تمّ اختصارها في كلمات بسيطة لتعبر عن ما يجتاحنا يومياً من مشاعر وأحاسيس ومواقف، … ومع الوقت تتحول تلك الاقتباسات لأسئلة وجوديّة بعد أن كانت مجرد تعابير بسيطة عن مواقف لحظية، من قبيل: لماذا يبدو الظلام كئيباً؟ أو لماذا نفقد الحب؟ أو لماذا نفقد الإحساس بقيمة الأشياء من حولنا، وتبدأ الإجابات الفلسفية المراوِغة والمكوكية بالظهور تلقائياً، والتي لا تقل سذاجة عن هذه الأسئلة الفارغة التي تمّ خلقها بواسطة تعاطي الاقتباسات …
الليل مظلم، والناس غالباً ينامون لذلك هو كئيب في نظر البعض، والحبّ نفقده مثلما نكتسبه لأننا بشر، ولأنّه متعلق بظروف الحياة، ولا ضرورة لأن نشعر دائماً بقيمة الأشياء من حولنا، باختصار هذه هي الإجابات التي يعرفها من يسأل تلك الأسئلة، ولكن العالم الموازي المتخيّل يحتاج إجابات أخرى عميقة وفهلويّة، لكي نقنع أنفسنا أن هذه الأسئلة كانت تستحق أن تُطرح … وهكذا نقع في تلك الدوّامة العميقة التي تشبه (عالم أبطال الديجتال)، المليء بالألغاز والأحجيات! وليس من ضرورات الحياة الإجابة النهائية تجاهها.
نحتاج أن نقرأ السياق أكثر لنفهم كيف نتعامل مع النتائج، لا أن نركز على النتيجة فقط، أن نهتم بما هو أوسع من بضع كلمات في نص ما، فالنص كلّه جدير بالاهتمام، وهو ما يمنحنا الفهم والتعلّم والتجربة، أن ندرك أن سياق وسائل التواصل هو للتسلية، وليس لممارسة الحياة وإطلاق الحكم والعبر والخلاصات، نحتاج أن نتريث قليلاً وأن لا نتعامل مع الحياة بهذا التسارع المخيف والمختصر، والذي يعطينا صورة غير كاملة عن العالم حولنا، صورة سطحية ذات بعد واحد وتراجيدي …
ليس علينا أن نتوقف كليّاً عن الاقتباسات، فهي أدوات جيدة للتعبير بكلمات قليلة عن أشياء كثيرة، والعالم حولنا مليء باقتباسات غاية في الأهمية والدلالة، ولكن لتكن كذلك، تكتسب قيمتها من معانيها الحقيقية والسياقية، لا من أسماء أجنبية وشعور وهمي بالمثاقفة والتثقف، وإلا فسننتفخ بهذه الاقتباسات لنغدو بوالين عملاقة يملؤها الخواء في الحياة والشخصية والمعرفة والعلاقة مع الآخرين … … .
… … …