الانتحار في الشمال السوري … موت خارج السجلات الرسمية

أحمد وديع العبسي

ما تزال ظروف الحرب تضغط على السوريين نفسياً واجتماعياً ومادياً، رغم التهدئة النسبية التي شهدتها البلاد في العامين الأخيرين، إلا أن أسباب المعيشة والحياة ما زالت ترزح تحت وطأة الحرب التي لم تنتهِ فعلياً حتى الآن، وهي في تفاقم مستمر نتيجة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ودمار البنية التحتية، وتراجع الخدمات في عموم سورية، مع بعض التفاوت بين منطقة وأخرى، ولكن السمة العامة لكل مناطق النفوذ في سورية، توصف بأنها مناطق تعيش آثار حرب مستمرة ضمن هدنة مؤقتة غير رسمية.

في أحد اجتماعات الصحفيين التي عُقدت في الشمال السوري، تمّ الحديث عن تنامي حالات الانتحار في المنطقة عموماً، رغم عدم وجود أرقام مسجلة تراقب هذه الحالة، أو أي تقارير مختصّة تدرس أسبابها، وتم وصف هذه الحالة من عدد من المشاركين بأنها واحدة من أكثر الحالات التي تخضع للتكتّم الاجتماعي، وبأن كل ما هو متوفر عنها هي القصص الشفهية التي يحكيها الناس لبعضهم في أزقة الشوارع والمقاهي، أو التي يتكلم عنها أطباء المشافي بحذر، دون أي توثيق رسمي أو معلومة عن الأشخاص الذين أنهوا حياتهم بالانتحار أو ذويهم.

بعد الاجتماع قادتني الصدفة إلى لقاء أحد الصحفيين الذين حاولوا الانتحار منذ أكثر من عامين واقترب بشكل كبير من الحالة، ويحمد الله على أنه لم ينجح في ذلك اليوم، ولكن حتى الآن هناك بعض الأفكار الغريبة عن الانتحار تراوده بين فترة وأخرى لنفس الأسباب التي ما زالت حاضرة في حياته ولم تتغير.

محمد الحمصي، كما يحب أن يعبر عن نفسه في تلك الفترة، يتحدّث عن تعرضه للاعتقال في سجن العقاب الشهير الذي تشرف عليه هيئة تحرير الشام لمدّة ثلاثة أشهر، وذلك بعد تفجير بيروت ب 10 أيام تقريباً كما يؤرخ للحادثة أي في 15 آب 2020، ولغاية الثامن من تشرين الثاني / نوفمبر من العام ذاته: “تمّ اعتقالي لأسباب لا أعرفها، كما خرجت من السجن بعد هذه المدّة أيضاً وأنا لا أعرف أي شيء، كأي معتقل، تعرضت لظروف نفسية قاسية، ولتحقيق وضرب، ولكن أكثر ما كان مؤلماً أني لم أعرف الأسباب التي أدّت لاعتقالي أو خروجي، كانت مدّة تمّ اقتطاعها من حياتي بلا مبرر، وترتب عليها اقتطاع مدّة أخرى لا تزال مستمرة إلى اليوم”.

صور متداولة لسجن العقاب – المصدر: الانترنت

“كنت أعمل في المجال الصوتي في الصحافة Voice over، وكان لدي أرشيف جيد لأعمالي يساعدني دائماً على الوصول لعمل جديد، كما كنت مدّخراً لمبلغ بسيط اتغلب به على ظروف الحياة المتغيّرة وكنت أفكر أن أفتتح فيه مشروع خاص إلى جانب العمل الصحفي، باعتبار أنني أعمل (عمل حر) Freelance، وظروف العمل الصحفي غير مستقر تماماً، لكن الاعتقال حرمني من الأمرين، فخسرت أرشيفي في المعتقل، كما تمّ مصادرة المبلغ المالي الذي كان بحوزتي، وخرجت دون أي ممكنات لمتابعة الحياة من جديد، بالإضافة لكوني أعيش وحيداً بعيداً عن عائلتي لمدّة ست سنوات، وكان علي أن أبدأ بالبحث عن عمل دون اي مقومات، وفي مجتمع فرص العمل فيه قليلة والضغوطات الاجتماعية ليست سهلة على الأطلاق”.

“عملت ناطوراً في (حظيرة ابقار) لبعض الوقت، فازداد الأمر سوءاً وأنا أرى كل يوم، اشخاصاً لم يكن لهم أي قيمة في الحياة أصبحوا يتحكمون بحياة الناس، بسبب ما وصلوا إليه من مكانة فرضتها ظروف الحرب، أشباه أميين، جهلة، متخلفين، علينا أن نراعي أوامرهم كل يوم لكيلا يبطشوا بنا، ولنتجنب أذاهم، كان الانتحار يخطر في بالي بين فينة واخرى، ولكنّي كنت أدفعه محاولاً أن أعتمد على التفاؤل بقدر سعيد سوف يأتي يوماً ما، بالإضافة إلى ما كنت أحس فيه بداخلي بأنني أقترف جريمة، فأنا شخص مؤمن والانتحار محرّم في الدين الإسلامي الذي انتمي إليه”.

“في صباح يوم 23 من شهر نوفمبر 2021، كنتُ مريضاً جداً ولا أقوى على الحراك، حتى أنني لم اتمكن من أخذ دوائي إلّا بصعوبة. استجمعت قوتي، وكتبت رسالة على الفيس بوك للأصدقاء والعائلة أشرح فيها موقفي، ثم أقدمت على حمل سكين أنهي بها حياتي، رغم صوت في داخلي ينهرني باستمرار، وكنت أحاول التغلب عليه، وفي تلك اللحظة، وصل إليّ أحد الأقرباء، كسّر باب بيتي، ودخل وأنقذني بعد أن ذبحت جزءا من يدي، ولكنّه استطاع أن يوقفني في النهاية، وأحمد الله على ذلك، ولكن للأسف حتى اليوم، لم يتغير شيء من ظروف حياتي ولا أزال أحاول التغلب على هذه الأفكار بصعوبة، لا زلتُ أبحث عن عمل. والاكتئاب النفسي بسبب الوحدة وصعوبات المعيشة والوضع السلطوي القائم، وتحديات تكوين عائلة في غربة النزوح، جميعها ظروف خانقة أسأل الله ان أتخلص منها في وقت قريب”

وحول مسألة العلاج النفسي قال محمد: “لا يوجد معالجين نفسيين تستطيع أن تثق بهم، أنا لجات للبعض. الكثير منهم يؤنبك وربما يتهمك بالتقصير الديني جراء أن هذه الأفكار تخطر في بالك، لا يوجد من يحاول ان يبحث عن الأسباب العميقة التي تدفع الإنسان للتفكير بالانتحار، ولا توجد أصلاً بيئة تساعد على التعافي من هذه الأفكار، تصوّر أنه بعد تلك المحاولة، تم استدعائي من قبل السلطات ومسائلتي، كيف سمحت لنفسي بالتفكير بالانتحار، وكأن هذا الأمر يحدث ضمن المنطق، في النتيجة هم أغبياء، يتعاطون مع كل شيء بسطحية”

ا. بلال خليفة/ مستشار تربوي ومدرب في مجال الدعم النفسي والحماية

 

الأستاذ “بلال خليفة” مستشار تربوي وهو أحد العاملين والمدربين في مجال الدعم النفسي والحماية، يقول: “مؤشر حالات الانتحار في سوريا يزداد، ومستوى تقديم خدمات الدعم النفسي قليلة قياساً للمؤشر، ولا تتناسب مع مستوى الخطر الذي يحدق بتلك الحالات، نضيف هنا ما يلحق بحالة الطوارئ السورية التي مرت بحرب وزلزال وقصف وأزمات اقتصادية وفقر حاد، وعدم توافر لفرص العمل، ومازالت تعاني من الارتدادات والانعكاسات والآثار لهذه المشكلات المستمرة. يجب العمل على زيادة الدعم الموجه لهذه المشاريع التي تنقذ الحياة، إضافة إلى توجيه هذه المشاريع للعمل بجد في مواجهة هذه المشكلة والوقاية منها، والعمل الحثيث على بناء الخبرات الداخلية التي تحقّق جزء كبير منها، ومازالت المنطقة تحتاج للمزيد، بالعموم نحن بحاجة لمشاريع مستدامة في هذا القطاع”.

 

في محاولة لفهم أكثر حول الموضوع تحدثت إلى عدد من الأطباء العاملين في مستشفيات الشمال السوري، لم يرغب أحد بالكشف عن اسمه لحساسية الموضوع بالنسبة للسلطات والمجتمع، وضرورة الحفاظ على سرية معلومات المرضى وفق طلبهم، ما ذكره غالبية الأطباء أن معدلات الانتحار أعلى بكثير مما يتم الإعلان عنه، خاصة بين النساء والأطفال، ولكن الأهل لا يرغبون بذكر الانتحار كسبب للوفاة، خوفاً من الوصم الاجتماعي للعائلة بأنها لم تُحسن التربية، ولأسباب دينية أيضاً، كي لا يتم التحدث أمامهم عن العذاب الذي سيلقاه المنتحر يوم القيامة، ويفضلون الاستغفار له بالخفاء، بالإضافة لخوفهم من المسائلة عن الأسباب التي دفعت المنتحر لإنهاء حياته، والتي ربما يكون لهم دور فيها فتجعل نظرة المجتمع لهم سلبية، بالإضافة إلى سبب أخير وهو خوفهم من أن يتفشى السبب في العائلة فيقدم فرد آخر من أفراد العائلة على انهاء حياته بنفس الطريقة، وغالباً ما تُسجل حالات الانتحار تحت بند الأمراض التنفسية الحادة، أو الجلطات (نوبات قلبية – سكتات دماغية) أو الحوادث (سقوط – حادث سيارة).

لمعرفة الأعداد المسجلة لحالات الانتحار في الشمال السوري توجهنا للدكتور “منصور الأطرش”، رئيس وحدة المعلومات الصحية في شمال غرب سورية، الذي أكّد معظم المعلومات السابقة التي وصلنا إليها من خلال الأطباء، ولكنه قال أيضاً إن هذه المعلومات تبقى غير مستندة لمصادر رسمية يمكن الوثوق بها، بسبب التحفظات الاجتماعية التي تمّ ذكرها، ولكنه يسمع مثل هذه القصص من زملاء المهنة.

د. منصور الأطرش، رئيس وحدة المعلومات الصحية في شمال غرب سورية

“بالنسبة للعام الماضي 2023، تم توثيق 14 حالة انتحار من أصل 2704 حالات وفاة مسجلة في الشمال السوري بحسب الدكتور منصور وفقاً سيستم DHIS 2 الخاص بأرقام المشافي، كما تم تسجيل حالتي انتحار بشكل رسمي في عام 2024، ثم تمّ التوصل من خلال بعض المعلومات إلى 9 حالات إضافية لم يتم توثيقها بناء على طلب أهل المتوفى، وغالباً هذه الأرقام مجتمعة هي خُمس الأرقام الحقيقية، والعدد يمكن أن يصل إلى مئة حالة على الأقل في العام الماضي”

“بحسب البيانات الصحية المسجلة لطرق الانتحار في العام الماضي كان هناك 10 حالات تسمم بسبب حبة الغاز، وحالتين تسمم مجهول السبب، وحالتين لم يذكر في القسم السردي أي معلومات حول السبب الطبي للوفاة”

“امّا بالنسبة لنظام التشريح اللفظي verbal Autopsy وهو أداة اجتماعية وليس في المشافي، ويتم عن طريق اللقاء مع العائلات، والذي نعمل عليه بالتعاون مع عمال الصحة المجتمعية، فقد وصلنا إلى 30 حالة انتحار وفق هذا النظام، منذ الربع الأخير من العام الماضي وحتى اليوم، أي خلال 9 أشهر، ولكي نقرأ البيانات بشكل أفضل بحسب الدكتور منصور، فإنه من أصل 1001 حالة وفاة، لدينا 312 حالة اسباب خارجية (يعني أسباب غير مرضية، كالسقوط وحوادث السير والانتحار) 30 حالة منها “انتحار”، حوالي 3% من حالات الوفاة وهذا الرقم مرعب! وما يزال غير دقيق، ومرشح للزيادة بالنظر إلى اسباب التكتم الاجتماعي”

حالات الوفاة في الشمال السوري بين أواخر 2023 ومنتصف 2024، المصدر: وحدة المعلومات الصحية في شمال غرب سورية

وعن أسباب الانتحار، قال الدكتور منصور: “إنهم في القسم الصحي لا يبحثون حول الأسباب النفسية للانتحار، ولكن صدمات الاكتئاب الناتجة عن الفقر والعجز عن تلبية متطلبات المعيشة بالنسبة لمن لديهم أطفال، ونتائج الثانوية العامة لليافعين، هي أكثر الأسباب التي تمّ تداولها في الأوساط المجتمعية والطبية، ولكن النظام الصحي لدينا لا يسجل هذه الأسباب”.

الأستاذ “غانم الخليل” مسؤول العلاقات العامة بمديرية الصحة في مدينة إدلب قام بتزويدنا بالمعلومات المتوفرة لدى مديرية الصحة، حول حالات الانتحار، والتي تقاطعت مع صحة المعلومات الواردة من وحدة المعلومات الصحية، حيث تمّ تسجيل 42 حالة انتحار في الشمال السوري، اثنتان منهما أدّت للوفاة، وتمّ انقاذ 40 حالة أخرى عبر التدخل الطبي السريع، معظم الحالات عبارة عن حالات تسمم باستخدام (حبة الغاز)، أو مبيدات حشرية.

يلاحظ في الاحصائيات: أن العدد الأكبر لمحاولات الانتحار هو من النازحين، ومن النساء أكثر من الرجال والمتزوجين بدرجة أعلى من غير المتزوجين، مما يؤكد أن ظروف الحياة لها الدور الأساسي في الإقدام على الانتحار. والظروف القاسية بالعموم تضغط على النساء في المجتمع أكثر مما تضغط على الرجال.

للوصول إلى البيانات التفاعلية أضغط على الصورة

منسقو الاستجابة نشروا مؤخراً في 10 تموز 2024 معلومات مختلفة حول احصائيات حالات الانتحار في الشمال السوري، من حيث إن الحالات التي أدت للوفاة بلغت حوالي 24 حالة، بينهم ستة أطفال و10 نساء، من أصل 43 محاولة انتحار منذ بداية عام 2024. في زيادة حالة واحدة عن إحصائية مديرية الصحة بإدلب، ولكن رقم الحالات التي أدّت للوفاة زادت 22 حالة. بمعدل زيادة 14% عن الحالات المسجلة العام الماضي في نفس الفترة.

في دراسة نشرتها مؤسسة Cambridge University Press بعنوان: التركيبة السكانية وعوامل الخطر المؤدية إلى الانتحار في سوريا Demographics and risk factors for suicide in Syria، تضمن دراسة 334، في مختلف أنحاء سوريا، أرجعت أهم أسباب الانتحار في الشمال السوري إلى: تدهور الظروف المعيشية في المنطقة، وتتفاقم الضغوط الاجتماعية مثل الفقر والنزوح وسوء التغذية، وانهيار الشبكات الاجتماعية بسبب الصراع وتأثيرها السلبي على الصحة العقلية للأفراد.

كما ذكرت الدراسة أن الشباب، وخاصة أولئك الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا، كانوا عرضة بشكل خاص لأفكار الانتحار، بسبب التفكك الاجتماعي، ومشاعر اليأس، والإحباط.

تضيف الدراسة أن السبب الأكثر شيوعًا للانتحار هو الظروف المعيشية القاسية (18.5٪) تليها مشاكل العلاقات (18.3٪). وأن أعلى عدد من حالات الانتحار هي الفئة العمرية 10-19 عامًا، وهو ما يعكس الزيادة الملحوظة في حالات الانتحار والأفكار الانتحارية بين الأطفال.

يسلط هذا الاكتشاف الضوء على ضرورة إعطاء الأولوية للاعتبارات الخاصة بالتدخلات التي تركز على الأطفال والشباب في السياق السوري. وخاصة في مجالات الدعم النفسي.

توزع نسب حالات الانتحار في سورية، المصدر: Cambridge University Press

في النهاية تتوافق معظم المدخلات في هذا التقرير بالإضافة إلى الدراسة، في تحديد أسباب الانتحار وربطها عموماً بظروف الحرب، التي يجب أن يعمل المجتمع الدولي على انهائها، أو على الأقل التوصل إلى هدنة بصددها، مما سيؤدي إلى التقليل من حالات الانتحار في سورية عموماً، خاصة إذا ترافق إيقاف الحرب مع انفراج الأوضاع الاقتصادية التي تلعب دوراً حاسماً في تنامي الأفكار حول الانتحار عند جيل الشباب أو عند الأطفال والنساء.

والأمر الأكثر أهمية هو إيجاد آلية لرصد حالات الانتحار، تستطيع تجاوز حالة التكتم الاجتماعي بسبب الخوف من الوصم أو العار أو الأسباب الدينية، وهذه الآلية تحتاج لمشاريع توعية (يلعب الإعلام دوراً أساسياً فيها)، تجاه ضرورة الإبلاغ عن حالات الانتحار من أجل دراستها وفهمها، ومعالجة أسبابها، ومساعدة عائلات الأشخاص الذين انهوا حياتهم بالانتحار من النواحي النفسية والاجتماعية، وهذا يستلزم ربما انشاء مؤسسة صحية (نفسية – اجتماعية) مختصة بدراسة الانتحار ومعالجة أسبابه، وتقديم الدعم اللازم للحالات التي تعرضت لمحاولات الانتحار، بصيغة مستمرة لا مؤقتة، تستطيع العمل على معالجة هذه الحالات في سورية (التي كانت تعد أحد أقل البلاد عرضة لحالات الوفاة بسبب الانتحار).

لتحميل التقرير بصيغة pdf من هنــا
أحمد وديع العبسيأسباب الانتحارالانتحار في الشمال السوريالتكتم الاجتماعي على الانتحارسورية