في زمن اللادولة، وفي زمن اللاهوية، تجد أن الحديث عن النظام والعمل المؤسساتي، والحديث عن الاعتزاز بالهوية والتمسك بها، غير مقبول عند أولئك الذين يريدونك بلا هدف وبلا هوية، وإلا فسيكون الثمن باهظًا.
يتعرض الإنسان السوري في الداخل المحرر إلى حالة تغريب لم يشهدها من قبل، تغريب عن قيمه، وهويته، وانتمائه، وحتى عن مبادئه الثورية التي نادى بها في بداية الثورة السورية التي نادت بالحرية والكرامة.
وتأخذ هذه الهجمة أبعادًا متنوعة من السكوت السلبي عن كل ما يقع من أخطاء، بل وإجرام يرتدي كثيرًا ثوب الخطأ، إلى القبول بالتحول إلى الانتماء المجهول والالتصاق بنسب أممي جديد، إلى تقديس الوارد من الأفكار عن طريق الإعلام والإنترنت، وعن طريق المنظمات التي تُجبر أو تقتنع بما تدعو إليه، وكذلك تقديس الأشخاص الذين يتصدرون المشهد السياسي، أو الفكري بشكل مطلق، وتنزيه هذه الأفكار عن كل نقص، فقط لأنها تردنا من هؤلاء الأشخاص.
إن الإنسان الحر يتأمل ويفكر ويقرر، وقرار الإنسان بهذا النمط من التفكير يجب أن يُحترم، وعن طريق الحوار يمكن أن يُواجه، وليس بالإقصاء، أو التصفية التي تأخذ شكل التنحية من المجتمع، أو التحية من الحياة بشكل كامل.
ومن هنا نسمع كل فترة عن إقصاء أشخاص عن مكانهم الاجتماعي أو السياسي، أو اغتيال ناشطين؛ لأنهم غرّدوا خارج السرب، سرب التقديس، وسرب التغريب، وسرب الاتباع الأعمى.
والآن نتساءل: ثم ماذا بعد؟ ما دور العقلاء والفاعلين في المجتمع؟
هل دورهم الانجرار وراء ذلك التشويه للمبادئ والقيم التي خرج من أجلها السوريون في بداية ثورتهم؟ هل واجبهم التماهي مع الأفكار الواردة، التي تخالف المتجذر من القيم عبر التاريخ؟
بالطبع لا، فالسكوت سيؤسس لديكتاتوريات جديدة، ولأفكار مخالفة، وهذا سيقودنا إلى مزيد من التخبط في الفوضى، والانجرار وراء العبث الذي تفرضه حالة اللادولة التي نعيشها في مرحلة التقلبات السريعة التي تقتضيها المرحلة بطبيعتها.
كيف نحمي أنفسنا ومجتمعنا من هذه الهجمة؟
ليس النقد المجرد ما يليس النقد المجرد ما يغير أو يبني، لا بدَّ من العمل الهادف الواضح، ومن ذلك:
- تفعيل دور الإعلام في ترسيخ القيم، وتوضيح مفاهيم الهوية، والانتماء.
- العناية بالجيل في تخصيص دروس للقيم، إضافة إلى الدروس العلمية، إذ يجب أن يكون لدينا طالب متعلم ومزوّد بالقيم ومحصّن ضد الشبهات والتشوهات الفكرية التي تغزو الساحة السورية في الفترة الأخيرة.
- تأطير الكوادر التعليمية والناشطين المجتمعيين بأطر موحدة للقيم، كي لا يتشتت الجيل في كل مراحله بين مواقف متناقضة، وذلك عبر تدريبات تقوم بها الجهات المعنية بحسب المؤسسات الموجودة في الداخل السوري.
إن النصر له أشكال كثيرة، كما أن الهزيمة أيضًا لها أشكال متعددة، وإن أهم أنواع النصر أن تجذب الطرف الآخر إلى ثقافتك، وقيمك، وإن من أسوأ أنواع الهزيمة أن تنسلخ من هويتك وثقافتك وقيمك، وتصبح في متقبِّلًا لما يمليه عليك الآخرون، ولعل هذا ما عبَّر عنه مالك بن نبي بنظرية (تقبل الاستعمار) أي الاستعداد الداخلي لكل الأفكار الواردة من الأقوى، نتيجة حالة الوهن التي يعيشها المجتمع، عندها لن تقوم لهذا المجتمع قائمة.