البدوي الأحمر.. محمد الماغوط

معتصم الخالدي

 

لا يختلف اثنان، كما أعتقد، على تميز الماغوط وفرادته الأدبية وتملكه لطريقة خاصة في كتابة النصوص المسرحية وتخيلها، فهو واحد من القلائل الذين كتبوا الكوميديا السوداء وتألق في طريقة عرضها ووصولها للناس، فصار له شعبية وشهرة واسعة تجاوزت حدود الوطن، وساهمت في انتشار اسم الماغوط بشكل واسع عربيًا. وكان أن انتقل ليعمل في صحيفة الخليج الإماراتية الشهيرة وبقي فيها لسنوات طويلة بعد أن استطاع تثبيت اسمه في مجال الأدب والصحافة بشكل واضح بعد تجربة مسرحية هائلة وناجحة إلى حدّ بعيد، وتجربته الصحفية نستطيع أن نصفها بالجيدة نوعًا ما.

ولكن يبقى ابن السلمية الفقير والمعدم واللاعن في كل كتاباته للفقر والجوع والاستبداد نتيجة مروره منذ الصغر بتلك الظروف المعيشية القاسية، يبقى من الصعب تفكيك شخصيته وتحليل مواقفه، أو حتى التعاطف مع مظلوميته التي كانت تلازم أدبه وحياته طوال سنوات عمره الطويل، لابد أن محمد الماغوط استطاع أن يضعنا في إطار المحبة والتعاطف معه وأوقعنا في إشكاليات لم يسعنا الانتباه إليها حتى يومنا هذا، ولذلك فإن مسألة كونه أديبًا أو شاعرًا هاجم الاستبداد والمستبدين لا تخفي علينا أنه وجيله من الشعراء (كنزار قباني، وأدونيس، ومحمود درويش) صبغتهم الرمادية في كثير من اللحظات التاريخية والمهمة، واختاروا السكوت بدل التعبير والمسالمة بدل النقد والهجوم، وصديق الماغوط المقرب أدونيس شاعر الحداثة الغربية مثال حقيقي على ذلك.

وبالرغم من أن الكوميديا السوداء التي برع بتأليفها شاعرنا الكبير واحتكرها صديقه دريد لحام (كما كان كل شيء محتكر في سورية آنذاك)، استطاعت أن تشكل حالة من التنفيس الشعبي إن صح التعبير، وهذا ما أرادته المنظومة الحاكمة تمامًا، فكيف لمقارع للاستبداد أن يمنح المستبد فرصة ليظهر بصورة الديمقراطي المتسامح مع النقد راعي المسرح والفن والانفتاح؟!

وكيف يمكن له أن يتعامل مع تافه كدريد لحام (بحسب تعبير الماغوط نفسه في إحدى المرات)؟! وهل يحتاج الإنسان لمدة تتجاوز العشرين عامًا ليكتشف أن صديق دربه متسلق أو تافه أو حتى جبان. عشرون عامًا لم تظهر تفاهة لحام بالنسبة إلى الماغوط إلا بعد الخلاف على التغيير بقصة مسلسل (وادي المسك) الشهير التي عدلها دريد لحام دون العودة للماغوط حينها، والخلاف يتمحور حول أن لحام بدل الشخصية الرئيسة في العمل من ثري خليجي إلى صاحب مال دون جنسية معينة لأسباب عدة تتعلق بالتسويق وما شابه، مما أثار غضب الماغوط آنذاك ودفعه لمقاطعة لحام وعدم التعاون معه نهائيًا، أراد الماغوط أن يظهر الرجل الخليجي بمظهر الرجعي المتخلف الذي يرى بالمال وسيلة لشراء كل شيء، وهو نفسه من ذهب فيما بعد للعمل عند أولئك الرجعيين ونال لديهم حظوة خاصة وحاز العديد من الجوائز في أبو ظبي ودبي.

والسؤال الذي يفرض نفسه: أنه لولا الخلاف على سيناريو المسلسل هل كان دريد لحام تافهًا بنظر الماغوط رغم سنوات التعاون والعمل الطويلة لكليهما سويًا وتشكيلهما لثنائي مسرحي مهم في القائمة المسرحية السورية استمرت لعقود وحققت نجاحًا جماهيريًا واسعًا حينها؟!

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

وهل كان يرى البدوي الأحمر، كما يحلو له أن يصف نفسه، بحافظ الأسد مستبدًا؟! لن نفتش بالنوايا الآن، لكن بشكل واضح آثر السكوت ولم يهاجمه كما هاجم مصطلحات كالفقر والجوع والعازة، تلك الآفات التي كان سبب وجودها في حياة السوريين الأسد ونظامه بلا شك، وقد تكون للماغوط حسابات خاصة دفعته لأن ينفس بالمسرح عنه وعن بلدته السلمية وعن سورية بالفعل وعن حافظ الأسد ونظامه أيضًا، حسابات قد تكون لها علاقة بخلفية الأسد وبيئته المتشابهة مع خلفية الماغوط وبيئته أيضًا، وعلى ذلك فإن الماغوط صعب المزاج استطاع أن يخلق حالة اتسمت بالخداع في الكثير من أعماله ومنعطفات حياته على الصعيد الشخصي، ولا أنكر بطبيعة الحال أن لديه موهبة جميلة نجح في تحويلها إلى لغة خاصة عاشت مع الناس لفترات طويلة جدًا.

أما عن تجربته الشعرية فلا أستطيع الجزم أو إلصاق صفة شاعر بالماغوط لسبب بسيط، هل تكفي ثلاث مجموعات شعرية لإحداث مثل هذا الصخب حول خصوصية تجربة محمد الماغوط الشعرية؟

اقرأ أيضاً: جامعة حلب تفتتح أهم مرجع علمي في المحرر

الرجل صمت شعريًا مبكّرًا، على رغم كل المديح الذي واكب حضوره المتفرد والاستثنائي، ليضع قصيدته على رفّ خاص في المكتبة العربية، إذ اتفق أصدقاء قصيدة النثر وخصومها على شاعرية الماغوط دون غيره من الشعراء، وظل بمنأى عن الحروب الطاحنة حول ما هو شعر، وما ليس شعرًا، ولم يدخل في السجالات النقدية والنظرية حول شرعية ما يكتب.

كانت قصيدته ولا تزال، خارج سجلّ النفوس الشعري، ولم تُرجم بحجر أو تُتهم بخطيئة، فيما خاض الآخرون معارك شرسة لإثبات هوية قصيدة النثر وشرعيتها. حتى أنه لم يكلّف خاطره بتسمية ما كان يكتبه: هل هو شعر أم نثر، أم صراخ في برية؟

وحين كثرت الكتابات النقدية حول شعره، تشبّث الماغوط بعفويته وفطرته، وراح يؤكد صراحةً بأنه لم يكمل تعليمه، وتاليًا لم يطّلع على خزائن الحداثة كي يغرف منها نصوصه أو يتأثر بأعلامها.

يعترف الماغوط بأن معلمه الأول في الشعر هو (سليمان عواد) ابن مدينته السلمية، فيما لم يتجاوز اسم المعلم حدود البلاد، ثم أليس غريبًا أن يصمت عن كتابة الشعر بمجرد أن غادر بيروت واستقر في دمشق مجددًا؟ كأن المدن تلعب دورًا أساسيًا في إنضاج تجربة إبداعية أو موتها!

لا أعلم إن كنت قاسيًا بأحكامي على الماغوط، إلا أن بهرج النجاح لا يجب أن يغفلنا عن حقائق ومتقاطعات كثيرة مرَّ بها الماغوط ومرت التجربة الثقافية السورية برمتها بتلك الحالة من عدم الاتزان أو الوضوح ليصبح النجاح لمجرد النجاح سببًا للشهرة وتصبح المواقف والمبادئ ثانوية، وبالتالي وقف الجميع فوق المربع الرمادي تفاديًا منهم لخسارة المكاسب أو الشهرة والأضواء، ولكي أكون منصفًا مع تاريخ الماغوط اخترت هذا الاقتباس من أحد أعماله الشعرية:

“آه يا أمي

أتوسل إليك أن تسرعي يا أمي

وأن تعرِّجي في طريقك

على الحصادين ومضارب البدو

وتسأليهم عن (حجاب) جلدي

عن (عشبة) ما

تقيني هذا الخوف:

أدخل إلى المرحاض وأوراقي الثبوتية بيدي

أخرج من المقهى وأنا أتلفت يمنةً ويسرة

حتى البرعم الصغير

يتلفت يمنة ويسرة قبل أن يتفتّح

آه يا أمي

لو كانت الحرية ثلجاً

لنمت طوال حياتي بلا مأوى…”

البدوي الأحمرالماغوطالمعتصم الخالديمحمد الماغوط