▪️استِهلال :
• أعوامٌ مضَت على توقُّدِ الثورةِ السوريّةِ و انعتاقِ الهِمَمِ التي كانت مغيّبةً و مقيّدةً في الآنِ ذاته ؛ إذْ كانت مغيّبةً عن حقيقةِ دورِها المؤثّرِ في بناءِ نهضةِ المجتمعِ و تطورِه الحضاريّ على مستويات التقدُّم كافة ، و مقيّدةً كذلك بقيودِ الذلِّ و الاستعبادِ و التهميش و الإلغاء و إزهاقِ كرامةِ الإنسانِ على أعتابِ العبوديّةِ المُنتِنةِ للظالمِ الأهوج ، و تأطيرِ الفكرِ و العقلِ بحصرِهما في سفاهةِ التماهي مع “شخصيةِ” القائدِ و “منجزاتِ” القائد و “حكمةِ” القائد ، و حزبِه الطائفيّ الحاقدِ على الإنسانِ السوريّ و الذي فكّـكَ -عبرَ نهجه الساديّ الإقصائيّ- النسيجَ السوريّ الاجتماعيّ بل وصلَ به الأمرُ لِإحداثِ الخللِ في تركيبةِ المجتمع السوريّ ديمُغرافيّاً في صورةٍ واقعيةٍ معاشةٍ من حُكم سورية -مجتمعاً و هِمَماً- بالحديد و النار .
• هذه العقليةُ المريضةُ في إدارة شؤونِ البلدِ و آلية التعاملِ مع كوادرِه و عقولِه و قاماتِه المجتمعيّةِ الأصيلةِ و المعرفيّةِ العلميّة و الثقافيةِ الإبداعيّة دفعَتْ الكثيرين إلى مغادرةِ سورية الشام باحثين عن ملاذٍ يجدونَ فيه اعتبارَهم و رُقيَ التعامل مع علومهم و إبداعاتِهم ؛ أو لنقُلْ : “ملاذاً يحترمُ كرامتَهم و إنسانيَّتَهم و آدميتَهم” …ممّا كان له الأثرُ الأبرزُ في تقلُّصِ مساحةِ الإبداعِ و تسرُّبِ نُخبِ المجتمعِ لتصبَّ عصارةَ فكرِها و إبداعِها و طموحِها في روافدِ مجتمعاتٍ أخرى وجدتْ بهم منبعَ إبداعٍ و مكينَ علمٍ و سموَّ طموح و حميدَ أخلاق فاستثمروهم حتى أحدثُوا بهم نهضةً و تقدُّمَاً لمجتمعاتِهم و بلدانهم في مختلف المجالات ، فكانتِ العقولُ السوريةُ و نُخبُها العلميّةُ روادَ النهضةِ في تلك البلادِ التي دخلوها و استقروا فيها ، و لنا في ذلك أمثلةٌ حسيّةٌ كثيرةٌ أوسعُ من أنْ ينالَها إحصاء منها على سبيل المثال لا الحصر :
– المستشار و السياسي الدكتور معروف الدواليبي [1909 – 2004مـ]
– العلّامة القاضي الأديب علي الطنطاويّ [1909 – 1999مـ]
– القانوني و الفقيه الدكتور مصطفى الزرقا [1904 – 1999]
– الجيولوجي البرفيسور حسن زينو [1948 – 2009]
– المفكّر المربّي عبد الله ناصح علوان [1928 – 1987]
– الطبيب الجرّاح و الباحث العالم الدكتور عبد الرزاق الكيلاني [1925 – 2005]
و قائمةُ علمائنا السوريين المؤثِّرين أكاديميّاً في البلدان التي هاجروا إليها تتسعُ دونَ أنْ تستقرَّ و تُختم باسم -أو عددٍ- محدّد بعينه ؛ هذا و لم نتطرق بعدُ في حديثنا عن الهِمم و الكفاءات السوريةِ التي تركتْ آثاراً في بلاد الاغترابِ بعد تهجيرها من سورية منذُ عام [2011 م] ..
و هنا تحضرني لطيفةٌ في سياق الفكر و العلم و الثقافة و هي أنّ سوريّةَ عموماً و دمشـقَ خصوصاً كانت من أوائل مَنْ بلغَ درجةَ التميُّز في مهنـة صناعة النشر و الطباعة ، و انتشرَ السوريون يعملون و يديرون بل و يُؤسِّسون دور النشرِ في الخليج و مصر و بيروت و الأردن ، و في تركيا حديثاً[1] .
▪️▪️التعليمُ الأكاديميّ في المحرّر ؛ واقعٌ و طموح :
➖ من الخطوات الرائدة في الثورةِ السوريةِ و التي شكّلت نقلةً نوعيةً في مراحلِها بعد صبرٍ و تضحياتٍ و جهود الإعلانُ عن تفعيلِ التعليمِ الأكاديميّ الجامعيّ في الشمال المحرّر ، حيثُ جاءتْ هذه الخطوةُ الجريئةُ في وقتِها المناسبِ بعد أربع سنوات تقريباً من استنزافِ كوادرِ الثورة و الشباب الجامعيّ المتعلّمِ استنزافاً كبيراً عبرَ أشكالٍ مختلفةٍ بدءاً من الاعتقال في معتقلات النظام و التغييب القسريّ و الفقدِ ، و قتلِ الكثير من الشبابِ الأكاديميّ تحت التعذيب أو الاغتيال أو الخطف ، فضلاً عن القصف بالبراميل المتفجرة و الطيران … لذلك لا نبالغُ إذا قلنا : إنّ إحياءَ التعليمِ الأكاديميّ يُعتبَرُ نقطةً فاصلةً في مسيرةِ الثورةِ السوريّةِ عندما تداعى عددٌ من أكاديميّ المحرّر و رجال الفكرِ للإعلانِ مع أواخر عام [2015] عن انطلاقِ التعليم الجامعيّ عبر جامعتَي إدلب و حلب الحرة و ما تبعَهما من تأسيسِ جامعاتٍ خاصة مرخّصةٍ من قِبلِ مجلسَي التعليم العالي في إدلب و حلب كـ ( جامعة شام العالمية و جامعة الشمال الخاصة و جامعة ماري … ) فساحةُ المحرّر تحتاجُ رفْدَاً جديداً من الشباب المتعلّمِ ليسدَّ نقصَ الكوادِرِ التي تقدّمتْ ميدانَ الثورة منذُ بدايتها ؛ فكان شبابُنا الجامعيّ الثائرُ في الطليعةِ لأنّه أدركَ حقيقةَ دورِه الحضاريّ في رسمِ ملامحِ الحريّة المنضبطة بضوابط العلم و الأخلاقِ ؛ فالشباب المتعلّمُ هو شريان حياةِ الأمم و عمادُ نهضتِها و بناء حضارتها لِمَا يمتلكه من عنفوان الشبابِ و طموحِ التغيير نحو الأفضلِ ؛ ذلك أنّ الطموحَ هو أحدُ عواملِ التقدّم للأرقى و صناعة المجد و الإبداع الحضاريّ الفاعل المثمر ، و هو أحدُ أسبابِ الخلود بعد موتِ الإنسان ؛ ذلك لأنّ الإنسانَ هو ما أنجزَه في حياته من فكرٍ يسري و يبني ، و فعلٍ مؤثرٍ يبقى .. فالطموح إن تمَّ بعثُه في نفوس شبابِنا الجامعيّ سيكون أبرزَ نازعٍ من نوازعِ بناء الحضارة و الانتقال إلى حيز التغيير الفاعل كما عبّرَ عنه الدكتور “زكي نجيب محمود في كتابه بذور و جذور” ، و بفقده يحدثُ التراخي و التبلُّدُ و الوَخَمُ الحضاريّ ، و الضعفُ النفسيّ في الإنسان .
➖ لذلك كانَ إحياءُ التعليم الجامعيّ خطوةً حيويّةً لأنّ الشبابَ محطُّ اهتمامِه من حيث الاستثمارِ الفكريّ و العلميّ الأرقى الذي يبني المجتمعَ و يزيلُ عنه مظاهرَ الترهُّل الحضاريّ عبر جيلٍ من كوادرنا أقوياء بتخصُّصاتهم أكفياء بوعيهم و فكرهم … و ذلك لسببٍ وجيهٍ هو أنّ التعليم -من حيثُ المبدأ- هو الحـلُّ لكافة الاضطرابات التي تعصف بواقعِ أيِّ مجتمعٍ -بما فيها مجتمعنا الثوريّ و السوريّ عموماً- . و قد أجادَ البرفسور “مهاتير محمد” إذ شخّص الواقع و قدّمَ العلاجَ بحكمة رجلٍ عالمٍ نظّرَ و طبّق ؛ حيث يُوجزُ رؤيتَه لمشروع النهضة الذي رسم معالمَه و كافح في طريق تنفيذه :
(( أهمُّ درسٍ تعلمتُه من تجربتي في الحُكمِ أنّ مشاكلَ الدولِ لا تنتهي ، لكنّ علاجَها جميعاً يبدأُ من التعليم !!))
و قد كررتُ مراراً -من منطلق عملي في حقول التعليم و دور النشرِ- : ” لو سمحَ نظامُ أسد و عصاباتُ مخابراته للمعلمين و أرباب الفكر و رجال العلم نشرَ علومِهم ، و توجيهَ طلابهم و تغذيتَهم فكرياً و قِيميّاً و وجدانيّاً لَمَـا قامتِ الثورة السوريّةُ أصلاً ، لكنه لن يسمحَ ؛ بل لا يستطيعُ السماحَ بحرية التعليمِ لأنّه يعلمُ يقيناً إذا ما امتلأتِ العقولُ بالفكرِ القويم الناضج و العلمِ المنتِج سيسقطُ هو و دولة مخابراته!! لذلك لا خيارَ له إلا بقمعِ الحريات و تقييدِ حرية الفكر و ملاحقة أهل العلم و كسر عنفوان أيِّ عالِم مبدع و كلِّ مصلِحٍ مجتهد” .
➖ فطموحِ التغيير في مجتمعِنا إنما يبدأ و يترقَّى بالشبابِ الجامعيّ المتمكنِ ، و من البشاراتِ التي تنشرحُ لها الصدور إقبالُ الشباب في الشمال المحرّر على متابعة تعليمهم الجامعيّ و تحصيلهم العلميّ و تطوير إمكانياتهم ، فحسب آخر الإحصائيات [عام 2021] قد بلغ عدد طلاب جامعة إدلب ( 14673 طالبـ/ـة) ، و عدد طلاب جامعة حلب الحرة حسب إحصائية عام[2021] قد بلغَ ( 9625 طالبـ/ـة) ، و عدد طلاب الدراسات العليا حسب إحصائية عام [2021] كذلك بلغ (437 طـالبـ/ـة) .. و في ذلك جميل الأثر إنْ تمّ توظيفُه أكاديميّاً و توجيهُه التوجيهَ الفكريَّ الراقي … و هذا ما سنتابعه معكم في محورنا الأخير الأهمّ …
▪️▪️▪️ إضاءاتٌ أكاديميّةٍ لنهضةٍ حضاريّة :
➖ سأحاولُ في هذا المحورِ -بإذن الله- تسليطَ الضوء بشكل مكثَّفٍ لاستثمارِ التعليم الأكاديميّ -الجامعيّ و ما بعد الجامعيّ- بآلياتٍ أقرب إلى المنهجيّة التي تصنعُ نهضةً ؛ فتبني جيلاً و تُحي أمّةً و تُنمّي وطناً و ذلك عبرَ إضاءاتٍ محددةٍ تصبُّ في المحصلةِ الإستراتيجية في مشروع الثورة السوريّة الرامية إلى التغييرِ و بناءِ الدولة بمفهومها النهضويّ الحضاريّ الراقي انطلاقاً من التعليمِ الموصِل لامتلاكِ القوةِ بأبعادِها التكاملية المتنوعة : الفكريّة منها و العلميّة و التربويّة الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الصناعيّة و السياسيّة و التنمويّة كافة .
• الإضاءةُ الأولى : تعزيزُ الانتماء :
أي تعزيز الانتماء بِبُعده الرِّساليّ القِيميّ و الوطنيّ الثوريّ ؛ هذا الانتماء الذي يُحي في نفوسِ و وجدانِ شبابنا قضيةً يتبنَونَها و تشرئبُ هِمَمُهم للإحاطةِ بكل ما يكفلُ تطويرَها و الدفاعَ عنها ، و ما الثورةُ السوريةُ في أصلِ فكرتِها إلّا قضيةٌ ساميةٌ ترنو إلى التغيير و إعادةِ كرامةِ الإنسان السوريّ و نشرِ قِيمنا الأخلاقيّةِ و التربويّةِ في مفاصلِ مجتمعنا السوريّ ، و احترامِ المبدعين و أهلِ العلم المتخصِّصين و إعطائهم موقعَهم الحقيقيَّ المؤثِّرَ في المجتمع عموماً و في عملية البناء و التغيير .
و لو تتبعنا تاريخَ نهضاتِ الأُممِ و الشعوبِ التي خرجتْ من واقعٍ مأزومٍ نفسيّاً و اجتماعيّاً ، مسحوقٍ ماديّاً و اقتصاديّاً و حتى معرفيّاً لَوجدْنا أنّ المحرِّكَ الباعثَ لنهضتِها إنّما هو الانتماءُ الأصيلُ لدى أبناءِ تلك الأممِ و البلدان ، و همَّتُها التي تستشرفُ النهوضَ و الارتقاء من واقعِها بالعلم و العمل معجونَين بصدقِ المقصد .. بل إنّ الرسالةَ الخاتمة التي جاءَ بها النبيُّ الكريم -صلّى الله عليه و سلّم- ما هي في جوهرِها إلّا ثورةُ تغييرٍ و بناء و ارتقاء نحو الأفضلِ الأحكم ، ثورةٌ أحيتْ أمّةً و رعَتْ قِيماً و نشرتْ خُلُقاً حتى وصلتْ لبناء حضارةٍ ما جاد الزمان بمثلها جابتْ أصقاعَ العالم عبرَ إنسانٍ مسلمٍ صدقَ في حملِ الرسالةِ -القضية- و نافحَ عنها فكان التأثيرُ و الإنجاز .
➖ فتعزيزُ الانتماءِ للقضية إنْ تمّ تفعيلُه بشكله الرِّساليّ الحضاريّ السويّ هو الذي سيكون الدافعَ لشبابنا الجامعيّ -ذكوراً و إناثاً- للتفاعل مع مجتمعِهم و السعي في دروبِ العلم بامتلاكِ أدواتِه رغبةً في تطوير هذا المجتمع ؛ بل سيكون المحفّزَ لشبابنا الأكاديميّ الذي يتابعُ دراساتِه العليا في الخارجِ للعودةِ لبلدهم بهدفِ العمل و التطوير و صبّ ما حصّلوه من علوم متقدمة في تخصّصاتهم في روافد بلدهم و مجتمعهم – و التي سيعززُها تحقق الإضاءة الثالثة القادمة كما سنرى لاحقاً –
➖ مع التنويه أنّ قضيةَ “تعزيز الانتماء” إنّما تتمُّ تنميتُها منذ بزوغ مراحلِ الإدراك عند الطفل مع سنواتِ التعليمِ الأولى حتى تتأصَّلَ في وجدانِ أجيالنا فتغدوَ نابعةً من الداخلِ ملازمةً لفكرِهم و توجُّهاتهم و رؤاهم .. و عليه فإنّ مشروعَ التعليمِ العام يجبُ أنْ ينطلقَ من رؤيةٍ إستراتيجية شاملة لاستيعابِ جميعِ المراحل العمريّة من أجيالنا حتى بلوغ مرحلة التخصُّص الأكاديميّ ؛ فالمشروعُ الناضج لا يستطيعُ العملَ على مرحلةٍ عُمريّة و إهمالَ غيرِها ؛ بلِ الواقعُ يحتِّمُ الانفتاحَ على كافة المراحل العمريّة من أبنائنا و محاولة سدِّ الثغراتِ التعليميّةِ القِيميّةِ ما وسعَ القائمين ذلك.. لكنّنا في ظل واقعِ ثورتنا لا نستطيعُ أنْ نهملَ قضية “تعزيز الانتماء” في التعليم الجامعيّ و الأكاديمي التخصُّصيّ بعذرِ أنّنا لم نبدأ مع الجيل منذُ مراحلِه الأولى و ذلك تطبيقاً لقاعدة ( ما لا يُدرَكُ كلُّه لا يُتركُ جُلُّه ) ، مع متابعةِ التأسيسِ الصحيح مع براعمِ أجيالنا الناشئةِ في كنفِ الثورة .
➖ و لتفعيلِ هذه الإضاءة لعلّه من النافعِ المثمرِ أنْ أقدمَ شذراتٍ من الأفكار – ربما نلحقُها بتفصيل و بيان موسّع إذا ما ارتأت توجيهاتُ القراء ذلك – :
1 – وضعُ خطةِ عملٍ لإحياء مآثرِ أساتذتنا الأكاديميين و طلابنا الجامعيين الشهداء ممّن حملوا قضيةَ ثورتِنا السوريّة و قِيمَ مجتمعنا الأخلاقيّة و الجماليّة حتى ارتقَوا شهداء -بإذن الله- خلال مراحل ثورتنا ، و ذلك بعقدِ الملتقياتِ الجامعيّة التعريفيّة ، و إصدارِ الأفلام الوثائقية الاحترافيّة عنهم ، و إعدادِ الإحصائيات الدقيقةِ عن أعدادِهم و التراجم الموسّعةِ عن سِيَرهم و أفكارِهم و أخلاقِهم و إنجازاتِهم و طبعِها و نشرِها …
2 – إعدادُ مقرّر دراسيّ جامعيّ كمادة ثقافيّة تُثري الفكرَ و تخاطبُ الوجدانَ حولَ الثورة و أكاديميّيها و طلابها برؤية جامعةٍ بعيدةٍ عن الأيديولوجيات المعلّبة ، و الأفكار المؤطّرة في حدود الفئة أو الجهة أو التيار أو الدول الداعمة … و إنما برؤيةٍ وطنيةٍ ثوريّةٍ جامعةٍ تلتزمُ أعرافَ مجتمعنا و قِيمَه و أخلاقَه و أدبياتِه .
3 – تفعيلُ الملتقيات الطلابيّة بأسلوبٍ أكاديميّ يخاطبُ الفكرَ و يُعزِّز الانتماء و يُوقدُ في نفوس شبابنا العزيمةَ و دافعيّةَ العملِ من خلالِ مجالسَ حواريّةٍ تحلِّلُ كتاباً و تناقشُ فكرةً و تستقطبُ مفكّراً و ترعى مبدعاً .. وذلك وفق خطةٍ واضحةٍ برؤيةٍ و أهدافٍ تستجلي رسالةَ التغيير نحو الأفضلِ معرفيّاً و فكرياً و علمياً و قبلَها قِيميّاً و أخلاقيّاً.. و ما أرقى تلك الملتقيات لوِ استطاعتِ استحضارَ سِيرِ أعلامٍ من علمائنا السوريين في مختلف ميادين العلم الأكاديميّ و المعرفيّ و الفكرِيّ و التربويّ … ممّن تركُوا آثارَهم في الذاكرة السوريّة و ساهموا بإخلاصهم و علمهم و همَّتهم في صناعةِ نهضةٍ أو تقديمِ إضافةٍ داخلَ سورية و خارجَها .
4 – فتحُ قنواتٍ من التواصلِ المثمرِ مع شريحةِ طلابِ المرحلة الثانويّةِ -ما قبل الجامعيّة- من خلال فريقِ متخصّصٍ في بناءِ العلاقات العامة في جامعات المحرّر … قنواتٍ تدعو طلاب تلك المرحلة لزيارة الكليات الجامعية و عقدِ لقاءاتٍ فيها ، و إجراءِ مقابلاتٍ منهجيّة مع الأساتذة الأكاديميين و الطلاب الجامعيّ زملاء الغد القريب ، و إفساحِ المجال للشباب الثانوي بالمشاركة مع الطلاب الجامعيين في ملتقياتٍ تفاعلية ناضجةٍ أو عقد ورشات عمل حوارية وفق خطة و رؤية تقدمُ تجارب و خبرات الشباب الجامعيّ لزملائهم المستقبليين ممّا يعزّزُ روحَ العلم و السعي في دروبه فتُحي دافعيةً عمليّةً لدى طلاب و طالبات المرحلةِ الثانويّة لمضاعفةِ الجهدِ و استثمارِ الوقتِ للوصولِ إلى الجامعة ، فتسمو هممُهم و ترتقي اهتماماتُهم في ظل واقع افتراضي يسعى خبثاؤه لحرفِ بوصلةِ شبابنا و بناتنا عن قِيم العلمِ و الأخلاقِ و البناءِ و دفعِهم نحو سفاسفِ الأمورِ و مُهلكاتِ الوقتِ و تفاهةِ التفكيرِ و سطحيّةِ الاهتمام ..
إنّ تطبيقَ هذه الخطوة سيكون مردُده جيداً سيما أنه سيربط طلاب المرحلة الثانوية بالحياة الجامعيّة قبل فترة سابقةٍ كافيةٍ يتعرَّفون خلالَها على التخصُّصات الجامعيّة و فروعها و مجالاتها و ربما توجَّهت ميولُهم نحو تخصّصاتٍ جديدة على فكرهم لم تكن في دائرة اهتماماتهم عندما يُحسِنُ الأساتذة الجامعيون و الطلاب تسويقَ ذلك الفرع معرفياً و أكاديميّاً و اجتماعياً … و بذلك لا تقفُ حدودِ التعريفِ بالتخصُّصات الجامعيّة عبر لقاءات عابرةٍ مختصرةٍ بعد صدور مفاضلات التخصُّصات الجامعية كما جرتِ العادةُ في المحرّر مؤخراً ؛ على أهميةِ تلك اللقاءات لكنها غيرُ كافيةٍ زمنياً لتحقيق المراد منها بل ستكون تلك اللقاءاتُ بمثابةِ السلسلة الأخيرة في محصلةٍ خاتمةٍ لأنشطةٍ متتابعةٍ على مدار المرحلة الثانوية لعام أم عامين أو حتى ثلاثة أعوام ..
• الإضاءة الثانية : العلومُ التي تنهضُ بالأمم :
لعلَّ أبرزَ أهداف الثورة السوريّة بعدَ إحياء قِيمِ المجتمعِ الأصيلة و ثوابته الأخلاقيّة هو الوصول بسورية لأنْ تكونَ مُدارةً بقاماتٍ من النُّخَـبِ الأكفيـاء علماً و فكراً و بصيرةً و أمانة . و لتحقيقِ ذلك و الانتقـالِ إلى حيّز التغيير الفعليّ و استنهـاضِ القُـوى الكامنةِ في ثورتنا لابدّ من الانتقال إلى التخصُّص العلميّ الدقيـق بـامتلاكِ ناصيةِ علومٍ رئيسةٍ لهـا الأثرُ الأكبـرُ في نهضةِ الأمم و بناءِ حضـارتِهـا ؛ مع التأكيدِ على قضيةٍ -تمثلُ نقطة نظام هذا اللقاء الكريم بكم أُثبتُها قبلَ ذكرِ هذه العلوم- و هي أنّ نهضةَ الأمم عبر التاريخ و تقدُّمَها و تفتُّحَ أنوارِ الوعي في تلافيفِ فكرِها إنما كانت -وتكونُ- بالعلومِ الإنسانيّة من ” تاريخ و شريعة و تراث و تربية و اجتماع و آداب و لغات و قانون و آثار و فنون ، يُضافُ إليها التخطيطُ الاستراتيجي و التفكير الناقد البنّاء و علم الإدارة ، و كذلك الإعلام و الدراسات و فنون التواصل …” لتأتي العلومُ التطبيقيةُ في المرتبة الثانية -على أهميتها- و لعلّ أهمّ تلك العلـومِ التي نحتاجهـا لبدء النهوضِ بواقعنا هي :
1 – علمُ التخـطيط الاستراتيجيّ العميق بمراحلـه و أبعـادِه السياسيّة و الاقتصـاديّة و الاجتماعيّة و الجيـوسياسيّة .
2 – علـمُ الإدارة و فنـونهـا لإدارة مـواردِ ثورتِنـا و لعـلَّ أهمُّهـا مواردَنـا البشـريّـةَ الهـائلـةَ ، ثـمّ الاقتصاديـة -الزراعيّة- منهـا و كـافـة المقـدرات في سبيلِ تأطيرهـا في مسـاراتهـا الصحيحـة و تطـويرها .
3 – العنايةُ بعلمِ الجغرافيـا لِمَا لهذا التخصّص من دور حيويّ في رسمِ سياساتِ الدُّول و معرفةِ عُمقها الاستراتيجيّ ؛ فَبِه تعرفُ محيطَها و مواردَها و مقدراتِها و ثرواتِها ، و تحددُ نقاطَ قوتِها و مواطنَ الضعف و الخلل … لذلك نرى هذا التخصُّصَ “الجغرافيا” بفروعه المتعددة ( الطبيعيّة و الحيويّة و البشريّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السياسيّة و التاريخيّة ) حاضراً في كل فريق رئاسيّ في جميع الدولِ و ذلك بوصفه علماً موجِّهاً لا يُستغنى عنه ؛ لِما لهذا العلم من فروعٍ .
4 – علمُ الاجتماع الذي أرسى ركائزَه و قعَّدَه رائدُ علم الاجتماع العلّامةُ ابـن خلدون [1332 – 1406م] جاعلاً منه علماً مستقلاً له اعتباره في حياةِ الأمم و الشعوب ؛ و لعلّ من الناجعِ حقيقةً دراسةَ مقدمته الموسومة بـ “مقدمة ابن خلدون” دراسةً منهجيّةً تحليليةً دقيقة على كافة طلابنا الجامعيّ بغض النظرِ عن التخصُّصاتِ الجامعية التي يدروسونها ، ففيها علمٌ عزيرٌ و منهجيةٌ راقيةٌ في أسس بناءِ الدُّولِ و آلياتِ استمرارها لتحقيق حضارةٍ مؤثّرة مهابة بأعمدةِ العلم و الأخلاقِ و القوة بأبعادها ..
– إنّـا لَمِن أمّةٍ في عهدِ نهضتِـهــا
بالعلـمِ و السّيفِ قبلاً أنشأت دولا
5 – علمُ الميكانيك و لوازمه من علوم تقنية و برمجيّة لأهميته الكبرى في ولوج عالم الصناعة و بناءِ مرتكزات البناء الصناعيّ ..
• الإضاءةُ الثالثة : اتحادُ أكاديميِّي المحرّر
فالحاجةُ لذلك ماسّة و ذلك لتوحيدِ الجهودِ الجامعيّة و الأكاديميّة و في جميع مساراتها العلميّة و الفكريّة و الإداريّة في اتحاد جامعٍ يضمُّ أكاديميّي المحرّر يرسمُ السياسات و يضعُ الاستراتيجيات لصناعةِ كوادرِ المحرّر المستقبليّة بعقليّةٍ تعاونيّةٍ جَمعيّةٍ منظّمةٍ انطلاقاً من مفهوم الإضاءة الأولى القائمة على الانتماء لثورتنا و قضيتنا و ثوابتنا الأخلاقية عسانا نتجاوزُ عبرَ هذه العقليّةِ الأكاديميّةِ الجَمعيّةِ التشتُّتَ الأكاديميّ في المحرّر على مستوياتِ الجهودِ و الفكرِ و الرؤى و الإدارة القائم للأسفِ على الأجندات السياسية و توجُّهاتها الأيديولوجية … لأنّ مثلَ هذه الخطوة -إنْ تهيأت لها ظروفُ و إرادةُ التطبيق- من شأنها ترسيخُ الاستقرارِ النفسيّ في نفوسِ شبابنا ، و جَعلُ الواقعِ أكثرَ ملائمةً لصناعةِ كوادرِ المحرّر المستقبلية .
و إنّ أجلَّ قضيةٍ يجبُ أنْ يتبناها هذا الاتحاد الجامع -إن تيسرتْ بوادرُ ظهوره- هي نقلُ الطالبِ/الطالبة من حيز التفكير الأحاديّ الفرديّ إلى سَعةِ الفضاء الجماعيّ المثمرِ على مستوى المجتمعِ ، و ذلك وصولاً بالطالب الجامعيّ إلى مرتبة حملِه همَّ الأمّة -المجتمع- و قضيتها ، فالأمّة إنمّا تنهضُ بأبنائها رجالاً و نساءً و بالتالي فكلُّ شابٍّ -و شابةٍ- ما هو إلا كادرٌ مستقبليّ من كوادر أمّتنا تستدعي منهم العملَ على أنفسهم و فكرهم و قدراتهم و تنمية مهاراتهم بما يُلبي لوازمَ النهوضَ الحضاريّ لمجتمعنا و بلدنا و ثورتنا .
• الإضاءة الرابعة : خاصة بتخصّصٍ الشريعة و الحقوق
أحببتُ أنْ تكونَ هذه الإضاءةُ خاتمةَ الإضاءات في هذا اللقاء بكم -قراءَنا الأكارم- نظراً لأهميتِها و حساسيّة الحديث فيها … هذه الإضاءةُ تختصُّ بكليات الشريعة و الحقوق و الرؤية التي يجبُ أنْ تُطبَّق في اختيارِ طلابها ليكونوا أهلاً لحملِ و نشرِ أمانة هذا التخصّصِ الأهم في بناء المجتمع دينيّاً و فكريّاً و أخلاقياً و قِيميّاً ، و توجيهه -أي المجتمع- بحكمة و علم و أمانة و جرأة.. و بذلك يجبُ أنْ يكونَ حَمَلَةُ هذا التخصُّصِ على قدرٍ رفيعٍ من الذكاءِ و الوعي و دافعيّة العمل ، و تأسيساً لهذه الإضاءة أقولُ : من الحكمة توجيهُ شريحةٍ من الطلاب المتفوقين في الثانويّة العامّة لدراسةِ تخصُّص الشريعةِ و القانون فلا يكون المتفوقون و المبرِّزون حكراً على الكليات و التخصُّصات الكونية و العلوم التطبيقيّة ؛ و أزعمُ أنّ هذه الرؤية تُعدُّ من التخطيط الاستراتيجي للمجتمع لأنّ هذا التخصُّصَ حقيقةً يحتاجُ -كما أسلفتُ- قدراً راقياً من الذكاء و سلامةِ التفكير و المنطق السديد و العقول النقيّة النظيفة ، و مستوياتٍ عليا من الهمّة و البحث و الإبـداع ، فلا يذهبُ لكلياتِ الشريعة و القانون أصحابُ الهِمم المتدنيّةِ و الإمكانياتِ الفكريّةِ المحدودة كما كان ديدَنُ النظام بصناعةِ عناصرِ المؤسسة الدينية من خلال استقطابِ “المشحوطين شحطاً” في الثانويّة العامة عبر مفاضلةٍ خاصّةٍ يسميها “مفاضلة فرع الحزب”!! حيثُ يدخلُ العضو العامل -الحزبيّ- لكلية الشريعة عبر تسجيل مباشر ليخرجَ إلى المجتمعِ في النهاية عنصراً تابعةً لأجهزة المخابرات بوظيفة ( شيخ و معلم دين و خطيب جُمعة و مفكّر… ) ، طبعاً لا أُعمّم لكن هذه الظاهرة تشكلُ شريحة لا بأسَ بها و قد عاينتُ شخصياً أمثلةً عديدةً من هذه الشريحة فكانوا على قسمين : – الأول : خبيثٌ لئيمٌ ما هو إلا عنصرُ مخابرات فعليّ يأكلُ الدنيا بالدين و يخطُّ التقارير لمعلميه في الفروع .
– الثاني بسيط -درويش- محدود الفكر و المَلَكة العقليّة …
هذا الأمر الذي كان له عظيمُ الأثرِ على مجتمعنا السوري و لاسيما السنوات العشرين قبل الثورة …
و ما طرحي هذا إلّا لنخرجَ بعلماء واعين مدركين جوهرَ إسلامنا ، يقودون المجتمع على هدىً و بصيرةٍ و جرأةٍ و ثبات … يسبقون زمانَهم استشرافاً للمستقبلِ و يُدركون كُنهَ الواقعِ و ما يتطلبُه من أحكام ، و يكونون على جانبٍ كبيرٍ من المسؤولية الفكريّةِ بمتابعةِ ما يستجدُّ في واقعهم و العالَم من أحداثٍ و ملمّات و ما يطرأ من توجُّهات و أفكار لا سيما في عصرنا الراهن و قد فتحتِ الدنيا كاملةً عبر فضاء افتراضيّ يسعى بكل طاقاته إلى سحقِ قِيمنا و أُسَرنا و القضاء على مجتمعنا بسرقةِ أجيالنا فكريّاً و أخلاقيّاً و معرفيّاً و غرائزيّاً حسب مخططات العولمة و دُعاتها .. لذلك فإنَّ عصرَ البساطة الفكريّة و الدروشة -عذراً على التعبير- لا ينفعان في ظل ما قدمتُ في عصر مخيفٍ يحتاج درايةً و وعياً لا ينفعُ معه إلّا مذهب فاروق الأمّة عمر -رضي الله عنه- (( لستُ بالخِبِّ و لا الخِبُّ يخدعُني ))[2].
و لكي تكتملَ الشخصيةُ العلمية و الفكريّة و السلوكية لدى طلابنا الجامعيّ و موجهيّ المجتمعِ لاحقاً لابد من توثيق صلتهم بعلمِ التزكية وفق منهج إسلامنا الحنيف و سيرة نبيّنا الباعث على الورع و تهذيب النفس و الارتقاء إيمانيّاً و روحياً و سلوكيّاً عسانا نعيدَ حقبةً ناصعةً من العلماءِ الربّانيين علماً و فقهاً و فكراً و خُلُقاً و سلوكاً و ورعـاً … نعم ورعـاً فعالمُ الدين إذا تجرّدَ عن الورع فقدَ التأثيرَ في المجتمعِ و غابتِ الغايةُ التي من أجلها كانت هذه الإضاءة .
▪️مسـكُ الختـام :
ختامـاً لمـا سبقَ عرضُه في هذا اللقـاء أصـلُ لتقرير حقيقةٍ أبثها عبر هذه المنصّة إلى أساتذتنا الأكاديميين و طلابنا الجامعيين و نخبِ الثورة الفاعلة كافةً ، مفادُها :
إنّ الطروحات التي ذكرتُها في الإضاءات الآنفة البيان إنما تتفعّلُ و تأخذُ طريقَها نحو التطبيق بهمم و فكرِ أكاديميين عاركوا مراحلَ ثورتنا السوريّة و خبروها فحملوا قضيةَ التغييرِ نهوضاً و عملاً و متابعةً دائبةً و جرأةً ؛ فلم تكنِ المادةُ أولى اهتماماتِهم ، و لعلَّ السبيلَ الأسلمَ الأحكمَ إنّما هو سبيلُ العملِ المُوثَقِ بوَثـاقِ العلم ، و المطيَّـبِ بعبيرِ الإخـلاص و الصـدق ، فجوهرُ القضيّةِ هي أنْ نعملَ و نسعى لخيرِ المجتمعِ ناثرينَ بذورَ المشاريع التي تنهضُ بالواقعِ و تُحي فضيلةَ الطموح مع الإخلاص لكنّ إمضاءَها و تحقيقَ نتائجِها بيد اللهِ -سبحانه- يُمضيها و يُهيئُ لها مساراتِ التطبيق متى شاء { و قـلِ اعمـلوا فسيـرى اللهُ عملَكـم و رسـولُـه و المـؤمنـون ، و سَتُـردُّونَ إلى عالـمِ الغيـبِ و الشهــادةِ فيُنبِّـئُـكـم بمـا كنتـم تعمـلـون } [التوبة : 105] .
➖➖➖➖➖
هوامش :
[1] هناك العديد من دور النشر في بيروت التي تعود ملكيتُها لناشرين سوريين كدار الفكر المعاصر و مؤسسة الرسالة و ابن كثيرٍ و دار القلم و غيرها..
و في مصر كذلك منها دار السلام التي تعود ملكيتها للمؤسِّس الأستاذ عبد القادر البكّار -الحلبي- الذي ضُيّق عليه في فترة أسد الأب فارتحلَ إلى مصر و أسس دار السلام للطباعة و النشر و التوزيع عام [1980] حتى نال صدارة دور النشر في مصر و العالم العربي و حاز عدة جوائز …
و في المملكة السعودية هناك على سبيل المثال دار الغوثاني و دار القلم حيث أسسها الأستاذ العالم محمد علي دُولة الدمشقي و روافدها دار البشير و الدار الشاميّة ؛ ناهيكم عن دور نشر سعودية بإدارة و إشراف سوري .
و في عمان الأردن هناك عدد من دور النشر التي أسسها سوريون كـ مؤسسة الرسالة الحديثة و دار عمار و غيرها …
[2] هناك مَن ينسبُ هذا القول لـ “إياس بن معاوية” كما ذكرَ ذلك ابن قتيبة في عيون الأخبار و غيره ، و لكن بلفظ (( لستُ بِخبٍّ و الخِبُّ لا يخدعُني )) .