في مسرحية غربة الشهيرة، التي كتبها الكاتب والشاعر الراحل محمد الماغوط يدور حوار بين أستاذ المدرسة والبيك (عبد الهادي الصباغ ودريد لحام) حول أهمية العلم والتعلّم والاشتراكية ليصل الحوار إلى جملة يقولها الأستاذ، مفادها: إنه يريد القضاء على التخلف، فيشتمه البيك ويستنكر قوله، لأن دولته توصف بالمتخلفة، وليس جديراً أن تبقى الدولة بلا وصف إذا تمّ القضاء على التخلف. (4:20 – 5:00 د)
الآن بعد حوالي أكثر من 45 عام على عرض المسرحية ربما نجد أنفسنا أقرب لتصور البيك حول الاشتراكية على الأقل، فهي لم تزد الدول التي تبنتها إلا طغياناً وتخلفاً واستغلالاً، وسورية واحدة من الدول التي حكمها حزب يؤمن بالاشتراكية، وهو واحد من أكثر الأحزاب سرقة لثروات الشعوب.
ولكن، ما الذي جعل موقفنا يتغير من المفهوم؟! ببساطة إنها التجربة، ..
إن مفاهيم التخلف والتقدم محكومة بسياق رئيسي هو التجربة، ولكن هذه التجربة هي كالكثير من التجارب العلمية والإنسانية ليست حيادية تماماً، وإنمّا محكومة بظروفها الخاصة والعامة والتنافسية، ولا أريد هنا الدخول في سياق التجارب العلمية ومدى ابتعادها عن الحيادية في التصورات والفلسفة وحتى النتائج، على الأقل في سياقها الإنشائي والواقعي، والكثير من الدراسات (العلمية) التي ثبت عدم دقتها العلمية بعد فترات زمنية طويلة تثبت صحة هذه المقولة، ولكن معالجة هذا الأمر يحتاج مقال أو مقالات أخرى ربما أكتبها في وقت لاحق.
نعود للتجارب الإنسانية التي تقف الحيادية فيها موقفاً حرجاً بشكل أكثر وضوحاً، لأن الإعلام والدعاية والبيئة التنافسية الإقصائية والحروب تلعب دوراً واضحاً جداً في وصف تجارب ومفاهيم وفلسفات بأنها ناجحة ومتقدمة وأخرى بأنها فاشلة ومتخلفة.
فالليبرالية والرأسمالية هي فلسفات لصيقة بالتقدم لأن التجربة الأوروبية الناجحة رسمت لها معالم هذه الصفة، في حين فشلت الماركسية والاشتراكية وأصبحت متخلفة بسبب انهيار الاتحاد السوفيتي، وخلال رحلة التجربتين كان هناك الكثير من العوامل المسكوت عنها، هي من أوصلت أوصاف التقدم والتخلف إلى تلك النظريات دون أن تكون على علاقة مباشرة بالنظرية ذاتها، أبرزها الإعلام والدعاية والحرب والهزيمة، والتحالفات التي رسمت القوة في المرحلة اللاحقة.
إذن فنحن غير منصفين تماماً عندما نستخدم هذه التقييمات والمفاهيم تجاه الدول والحضارات، لأننا نقيس ذلك بالتجارب والفلسفات الأخرى التي أثبتت نجاحها في ظروف غير حيادية وغير منصفة وغير حقيقية أحياناً كما أشرنا سابقاً، ولا نستطيع غالباً إعطاء أحكام مجردة، لأن التجارب مقترنة بظروفها العادلة أو غير العادلة، وعند هذه النقطة لا بدّ من التوقف قليلاً، فهل نستطيع اعتبار الحضارات التي استخدمت ظروف غير عادلة واقصائية واستغلالية … وغير ذلك الكثير .. حضارات متقدمة؟!! هل يجب أن نغض الطرف عن الطريق الذي سلكته لتصل إلى ما وصلت إليه ونركز على النتائج؟!! هل يعتبر هذا تقدماً من منظور إنساني مجرد وحتى من منظور إنساني عملي؟!
هذه الأسئلة تبحث عن إجابات منصفة عند القارئ والمثقف، ولا نريد هنا أن نجيب عليها ونذكر الأمثلة الكثيرة التي تشرحها في سياق الحضارة الغربية والحضارات الشرقية والأفريقية، وإنما أودّ الانتقال لما هو أسوأ من وجهة نظري على الأقل، وهو تبني المثقف العربي والشرقي عموماً والأفريقي لمقولات التقدم والتخلف التي انتجتها الحضارة المتعولمة، واسقاطها بدون رحمة على قومه وحضارته فقط لأنه انبهر بأضواء وبهرجات الحضارة الغربية، وبتقدمها التقني والتكنولوجي، وصار يطالب حضارته وقومه باللحاق بتلك الحضارة متناسياً أن يصف الطريق لذلك، لأن الطريق القويم الذي يرسمه لم تسلكه تلك الحضارة حتى وصلت لما هي عليه اليوم من (تقدّم) كما تحب أن تصف نفسها. (حضارات متقدمة)
لا أريد أيضاً أن أحاكم الحضارة الغربية اليوم كحضارة متقدمة أو متخلفة، أو أعدد المجالات التي نقبل بها تقدمها أو تخلّفها، فليس المهم الآن النظر للآخر، وإنما المهم هو فهم موقعنا بمعزل عن هذا الآخر في البداية، ثم يأتي فهم علاقتنا معه والتي نصيغها نحن وهو، وليس أي طرف بمفرده وإلا فإنها ستبدأ كعلاقة إقصائية وستستمر كذلك.
التقدم والتخلف مفاهيم وقيم لا تُبنى ضمن فلسفات تنافسية، وإنما ضمن فلسفات تكاملية، تُبنى بالنظر إلى قيم الحضارة نفسها ومدى حفاظها على هويتها وتميزها الثقافي والتاريخي والحضاري أثناء سيرها نحو الأمام أو خسارتها لهذا التميز أثناء تراجعها نحو الخلف، وليس بأسلوب اللحاق والملاحقة، لأن من فرض عليك اللحاق به لتتقدم، كتب عليك أن تبقى دائماً متخلفاً إلا عندما يعترف هو بغير ذلك، وبالتالي فأنت تابع له، مريض به، تقيس كل وجودك بالفسحة التي يتركها هو لك، لا بما تستطيع القيام به في فضاءك الرحب والواسع.
وللحديث بقيات …