لا شك أن من حقّ الشعوب أن تعبّر عن رأيها وعن غضبها …، لها أن تتظاهر وأن تنتفض وأن تحارب إن لزم الأمر في سبيل ما تؤمن به، ومن فضل القول أنّ لها أن تنتقد وتحاسب، كلّ هذا يتمّ في الدول الديمقراطية! بأسلوب حضاري وبوسائل مشروعة لا عنفية، وإن تخلّله بعض مظاهر العنف والتخريب أو الاعتداء الشخصي، فمؤسسات الدولة كفيلة برد الحقوق، ومحاكمة المخربين، والاقتصاص للاعتداءات الشخصية.
تجري هذه الأمور بسلاسة وعدالة في الدول التي تحكمها أنظمة ديمقراطية اختارتها الشعوب، وتدير منظومة الأمن والاستبداد هذه المظاهر وتبعاتها في دول الاستبداد والديكتاتورية، فتقمع الناس وتسلب حقهم في الاحتجاج …
هذا في الدول، ماذا عن أشباه الدول، عن الثورات، عن الفوضى والحروب، عمّا حدث لرئيس الائتلاف في مدينة أعزاز السورية أثناء مشاركته في المظاهرات الرافضة للتقارب السوري التركي، والمعبرة عن سخطها على الأداء الهزيل للمعارضة؟
وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل أود الحديث عن مجموعة من النقاط في محاولة لإلقاء الضوء على الحادثة وما يتصل بها من مواقف:
1- لم يكن سالم المسلط “رئيس الائتلاف السوري” على صواب عندما قرر أن يتوجه للناس بلا مرافقة أو حماية، ولا أدري هل ما فعله الرجل شجاعةً أم سذاجة؟! فالوضع الأمني في تلك المناطق في أسوأ حالاته، ومن الممكن أن يتم اغتياله بسهوله فضلاً عن التهجم عليه، فالقوى المعادية للمؤسسة التي يمثّلها كثيرة في محيط الشمال السوري المحرّر وعناصرها منتشرة في كل مكان. وكان الأحرى به أن يأخذ تدابير الحماية
2- ما فعله بعض المحسوبين على (الثورة) من تهجم مباشر على رئيس الائتلاف، هو تصرف مدان ولا أخلاقي ومسيء للثورة وجماهيرها (الثوار) ويعبّر عن حماقة وجهالة وطيش غير مبرر … لأنه في حين يتجرأ هذا الثائر على ضرب سياسي مدني جاء لمشاركته في الاحتجاج بغض النظر عن أدائه السياسي، يعجز هو نفسه عن رفع صوته بوجه عنصر أرعن يحمل بندقية يُسيء له ولثورته، ويمارس التشبيح على الناس ليل نهار .. كما لا يجرؤ هذا (الثائر) على رفع نظره بوجه أحد قادة هؤلاء العناصر الذين أدخلوا البلاد في سراديب الفساد والعمالة …
3- الإساءة للثورة الذي حملها هذا التهجم تتمثل في تكريس ضرورة استعراض القوة إذا كنت في موضع مسؤولية، وإلا سيتهجم عليك بعض الرعاع ممن لا يحترمون الناس ولا المؤسسات، ولا اعتقد أنّ أحداً بعد المسلط في المدى القريب على الأقل سيعاود الخروج بدون حماية ومرافقة
4- من المعيب جداً واللاأخلاقي في عرفنا وتقاليدنا وديننا ضرب رجل في الرابعة والستين من عمره، اعتمر الشيب رأسه، حتى لو كان مخطئاً، كان يكفي رفع الصوت بالاحتجاج والهتاف، ولو توقّف الأمر على ذلك لكان تعبيراً أشد بلاغةّ وأثراً، …
5- من يُشبه هذا الفعل بظاهرة الاحتجاج على المسؤولين في الغرب، وإنه ممارسة طبيعية في الدول الديمقراطية، هو أحمق ومغفل بما فيه الكفاية ليعتبر أننا في حاراتنا الضيقة (شمال سورية) أصبحنا نشبه الدول الديمقراطية! وهو في حماقته تلك يتجاهل أمرين، الأول: إن المسؤول في الغرب يمتلك الصلاحيات الكاملة لمسؤوليته التي خوّله إيّاها الشعب، ومن حق الشعب محاسبته، بينما مساكين الائتلاف ليس لهم من الأمر شيء .. والناس تعرف هذا …، الأمر الثاني: إن من يفعل هذا الفعل تجاه المسؤولين في الغرب، لا يُترك دون محاسبة، وقد يسجن لمدّة تصل إلى السنتين بسبب فعله.
6- هذا الاعتداء كان ردّة فعل على التقارب التركي مع النظام وعدم معارضة الائتلاف له كما قال بعض المتظاهرين، وهذه مغالطة شعبويّة خطيرة، لأن الائتلاف ورئيسه أصدر بياناً أكّد فيه الالتزام بثوابت الثورة، وبأنه غير معنيٍّ بهذا التقارب، … والائتلاف لا يرأس تركيا حتى يغيّر لها توجهاتها كما يظن بعض المغفلين، فضلاً عن أنّه لا يملك لنفسه إلا بعض المناورة السياسية الضيقة، وهذه المغالطات المستمرة سبب القطيعة بين السياسيين والناس، هناك دائماً من يعمل على إرسال رسائل مغلوطة ومنقوصة.
7-ردّ فعل المسلط يُحسب له، الهدوء وعدم التهجّم على أحد، والتفهم لغضب الناس … وربّما هذا أفضل ما قام به طيلة فترة رئاسته للائتلاف، كما أظهر تعامل المسلط مع الموقف أن مؤسسات الثورة لم تفرز طغاة ولا مستبدين، وإن كانت لم تستطع أن تفرز سياسيين محترفين، ولكنهم على الأقل يتعاملون مع الغصب الشعبي بالرويّة، وهم أفضل من العسكريين الذين أفرزتهم الثورة، وأفضل من مسؤولي النظام قاطبةً
8- على مؤسسات المعارضة أن تستفيد مما حصل من أجل تحسين علاقتها بمن يفترض أنها نمثلهم، وأن تتحدث إليهم بوضوح أكثر، وأن تكون أكثر نشاطاً في الجانب الإعلامي وأكثر استجابةً لتخوفات الناس، وأكثر تفاعلاً معهم من أجل ردم الفجوة بينها وبينهم.
9- المعارضة خسرت احترامها الخارجي بسبب مثل هذه التصرفات ممن يفترض أنها تنتمي إليهم، وخسرت احترامها الداخلي بسبب عدم قدرتها على تمثيل الناس وهمومهم، والتعبير عنهم، وهي واقعة في فخ سياسي لا يمكن التخلي عنه ولا يمكن الاستمرار به بهذا الشكل، ويجب إصلاح مؤسسات المعارضة فأداؤها سيء عموماً ومن يمثلونها لديهم نفس السوء في الأداء …
10- أعرفُ كما يعرف الكثيرون أن القرار السوري مصادرٌ بمجمله، ولا نملك من أمرنا شيئاً، كما لا يملك النظام من أمره شيء، وقضيتنا ربّما تحسم إقليمياً ودولياً، فلنترك المزاودة، ولنتجه معاً لمساحة العمل المتبقية، ولنحاول إصلاح ما تمّ إفساده سياسياً وعسكرياً واجتماعياُ …
11- الأبواق المتهجّمة والمباركة لهذا الفعل اللاأخلاقي، هي الأبواق التي أوصلت البلاد وثورتها إلى ما هي عليه اليوم من الخذلان والخيبة، هذه أصوات كريهة مقيتة مليئة بالغرور والتكبّر والصلف، وتريد خراب البلاد لا نصر الثورة، وهؤلاء هم من حاول تأجيج الموقف واستغلال الغضب الشعبي، وما زال المحسوبون على هذه الأبواق ينهقون على وسائل التواصل.
12- الإعلان الأحمق الذي قام به البعض والذي نصّ على إغلاق مؤسسات الحكومة والائتلاف، يصبُّ مباشرة في مصلحة النظام والقوى الأخرى التي نعرفها جيداً، ومن صاغ هذا الإعلان “متهم” ويجب التحقيق معه للتأكد من أنه لا يعمل لصالح تلك القوى
13-إننا لم نعد في ثورة، وإنما ندير حرياً وخراباً كبيراً، ومن أجل الخروج من هذا الخراب علينا أن نحمل بعضنا، وأن نحاول فهم ما يدور حولنا، فلن ينقذ النزق والطيش والغضب بلادنا، وإنما العمل والالتفاف حول القضية التي تجمعنا وتجاوز الخلافات في سبيلها، وتوقير مؤسسات الثورة ودعمها لا محاولة أسقاطها وإسقاط من يُمثلها …
14- على السياسيين والناس أن يعرفوا على السواء أنّ السياسة لا تُدار وفق أهواء الجماهير ولا وفق مطالبها، وإنّما وفق ما هو ممكن، ولا يمكن للسياسي أن يستشير في كل قرارٍ يريده، ولا يمكن أن يرضي الجميع، وقد لا يرضي إلا ضميره والحقائق التي يُدركها، وقد لا يتبين صواب فعله إلا بعد زمن …
15- وعلى المتظاهرين خاصةً أن يعرفوا أنّهم حين يجردون الآخرين من حقّ تمثيل الناس، لا يعني أنهم يمتلكون هذا الحق، وليس لهم أي شرعيّة في إصدار البيانات إلّا باسمهم، لا باسم الثورة ولا الناس في المحرر، وإلا فهم مستبدون يخونون الحرية التي يدّعونها، وإن فضاء الحرب محكوم بالقوة لا بأصوات المتظاهرين … كما عليهم أن يدركوا أن الأزمات لا تُدار بالوسائل الديمقراطية، وإنما يثبت في ميدانها الأكثر جدارة وتحمّلاً، وإلى قوته وحنكته وأمانته على حقوق الناس تستند مشروعية القيادة والتمثيل والأداء …
ختاماً ..