يحتفظ الكثير منَّا بالأيام والذكريات الرومنسية الجميلة عن الماضي (أيام كنَّا عايشين)، الأهل المحبون، وسنوات الدراسة الممتعة، والتنقلات المريحة بين المناطق، والإنجازات الكبيرة للشباب، والأسعار المنخفضة للسلع، كلها كانت صنيعة أهلنا وغنى بلدنا، أما ما صنعه المستبد فينا، فهي قلوب مريضة نخرها الفساد والحقد، وعقول مغيبة مضطربة لا تعرف الوجهة ولا السبيل، ذاتٌ مسلوبة واهنة ترضى بالدنية وتُسالم على أعزَّ ما أعطاها الله بفتات الحياة الدنيا.
ورغم أننا كنا نعيش في مملكة الخوف والظلم والضياع، لكن في درعا استطاع الأطفال الصغار قلبَ الطاولة على كل ما اعتنقنا من عقائد فاسدة، وعلى كل ما كبر فينا من صور مشوهة، ليبدأ النضال في سبيل الإجابة العظيمة على السؤال الأهم: ماذا أفعل هنا؟ وإلى أين أسير؟ وماهي الغاية؟ وأين الطريق؟
انطلقت الصرخات المدوية والأمواج البشرية الهائجة لتجرف في طريقها العمى الخمسيني الذي أصاب بصائرنا وبصيرتنا، ولتتفتح في قلوبنا أزهار آذار وربيعه العظيم حاملةً براعم يقين راسخ بالغاية الأسمى لوجودنا، والإجابة الأنجع لأسئلتنا، ومعنى حياتنا الذي يشع بالحرية، التي بها نعمرُّ بلدنا، وتُخصبُ أرضنا، وتتحقق ذاتنا.
ما الذي يقرّ عيوننا الباكية لولا ذاك الوعد الغيبي بالأجر والعاقبة؟! وما الذي يسلِّي قلوبنا المكلومة لولا ذاك الحلم بانتصار مبادئنا وبلوغ مرامنا؟! وما الذي يشد على أيدينا الواهنة لولا ذاك اليقين بأننا بالحق لو أردنا اقتلاع جبل لفعلنا؟! وما الذي يُبدل حزننا وجزعنا فرحًا لولا اكتشافنا لمواهبنا الرهيبة وقدراتنا الحبسية عقودًا من القهر؟!
التسامي على الآلام رغم طول فترة المعاناة دليل على تفتح الوعي ونضج الوجدان واحترام الذات، لقد تحولت حياتنا إلى كفاح مستميت، نصمد ونصبر ونصابر لأجل غاياتنا، لقد صارت جراح بدننا وروحنا وفقد أحبتنا وفقرنا وخيامنا الغارقة في الطين، كلها جزءًا قيّمًا من ذاتنا المتوقدة بالأمل والطموح.
بات طريقنا واضحًا رغم قسوته إلى دولة الحرية والمواطنة والوطن الحلم؛ الذي هانت التضحيات في سبيله، وانطلق المارد المستكين فينا، نصرّ على استمرارية الثورة بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا وأيدي أبنائنا رغم الخيبات.
شخصية جديدة تُبنى فينا نحن أبناء الثورة، الذين نبتنا بترابها وترعرعنا على مبادئها، ورغم المطبات القاسية لم تستقر في ذاتنا اللاواعية سمات الذل والمهانة، ربما يلعب الخوف دوره أحيانًا في قلوبنا، لكن سرعان ما ننتصر عليه ونفزع لاستكمال بناء وعينا، تعلمًا ونهضةً ومحاولة وتجربة، وفي أحلك أوقاتنا لم نتراجع ولم نطلب المصالحة، يكفينا شرفًا أننا نحاول حتى الآن استئصال جذور الاستعباد التي زرعوها عقودًا فينا.
أصبح التغير ديدننا، والمحاولة المستميتة سمتنا، والصرخة المدوية رفيقتنا، والهجرة في سبيل مبادئنا أقل خسائرنا، لم يعد مستنقع الاستقرار الآسن حلمنا، نحن أبناء التغيير وأبناء الثورة على كل ظلم أو قيد يعيق بناء الحياة وحرية الإنسان.
فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة وقلّ الكلام وانطلق الإنسان فينا للعمل المجدي المؤثر؛ ومهما كان صغيرًا فأثر الفراشة لا يُرى ولا يزول، قناديلنا الخافتة تنير الطريق رويدًا رويدًا مثابرين، ولا بد أن يشع نورنا، وما وقر في قلوبنا إيماننا بحريتنا ووطننا وديننا وشهدائنا وأمهات شهدائنا وجيلنا القادم، وحقنا في خيرات الأرض التي استخلفنا عليها، حقنا في وعينا كاملاً بدون تشويه، حقنا في تاريخنا بدون تزوير، حقنا في ذاتنا حرة كريمة كما خُلِقت، منطلقةً خلاقةً مبدعةً لا مقتولة ولا مسلوبة، هذا الإيمان هو الثمرة الأينع والإرث الأثمن للثورة التي لم ولن نندم عليها.