الرواتب في سورية تحت خط الحياة: تشخيص للأزمة واقتراحات للنجاة

المهندس: خالد بابللي
الرواتب في سورية تحت خط الحياة: تشخيص للأزمة واقتراحات للنجاة

تواجه سورية اليوم أزمة خانقة في الأجور والدخل، تتجلى في تدني رواتب العاملين والعاملات إلى مستويات غير مسبوقة، وسط تصاعد جنوني للأسعار، وتراجع قيمة العملة. لكن الأخطر من ذلك كله هو غياب التفكير المرن أو اتخاذ تدابير إدارية حقيقية لاحتواء هذه الأزمة أو التخفيف من حدّتها.

ومن أهم أسباب تدني الرواتب:

  • الفساد المستشري من حيث الإنتاج والرشوة، الناتج عن النظام البائد في كل قطاعات الدولة، في القطاعين العام والخاص. إذ بات القطاع العام أشبه بمؤسسات رمزية، بلا إنتاجية حقيقية، تسيطر عليه البيروقراطية والشلل الإداري. الموظف المثابر والموظف الغائب يتقاضيان الراتب ذاته، في حين أن الراتب الشهري لموظف في القطاع العام لا يكفي لتغطية احتياجات أسبوع واحد.
  • غياب أي حوافز مرتبطة بالأداء أو الجودة، ما يولد إحباطاً عاماً، ويدفع الكثيرين للبحث عن “بدائل” عبر الفساد أو الرشوة.
  • الانخفاض الحاد في قيمة العملة خلال سنوات الثورة.
  • العقوبات المفروضة على سورية.
  • محاولة الحكومة الحالية معالجة الموضوع بإزالة أسباب انخفاض العملة، وانتظار ارتفاع سعرها لصرف الرواتب كما كانت، مع وعود برفعها، دون اتخاذ خطوات مرنة بهذا الشأن.

أما القطاع الخاص، الذي كان من الممكن أن يشكل بديلاً ديناميكياً، فقد أصبح مرهقاً بالتضخم، ومتخبطاً بالقوانين العشوائية والضرائب المفاجئة، وعاجزاً عن تطوير أنظمة حوافز حقيقية بسبب القيود القانونية والرقابية غير المدروسة. وقد لجأت كثير من المؤسسات الخاصة إلى حلول رمادية، كالدفع بالليرة بسعر صرف وهمي، أو إعطاء جزء من الراتب على شكل “بضائع”.

المشكلة لا تقتصر على ضآلة الراتب فحسب، بل تشمل أيضاً الجمود والتأخير في اتخاذ القرارات، وعدم الإسراع في اعتماد مقاربات مرنة، سواء من خلال الحوافز، أو التشريعات، أو إدخال أنظمة لتقييم الأداء أو توزيع الأرباح. وفي المحصلة، أصبح الراتب مجرد قيمة رمزية، لا تتناسب لا مع الجهد، ولا مع كلفة المعيشة، ولا حتى مع الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية.

سنستعرض في هذا المقال الخطوات المرنة والشرعية الممكنة لزيادة رواتب العاملين، والتي يمكن للحكومة اتخاذها.

أولاً – استعراض الحلول المرنة الممكنة في تعزيز ورفع رواتب العاملين

رغم أن مرحلة ما بعد التحرير حملت آمالاً بتحسين الواقع الاقتصادي، إلا أن التحولات الجارية لم تُثمر بعد عن تحسن ملموس في دخل العاملين. ولهذا، بات من الضروري التفكير خارج الصندوق، واعتماد حلول مرنة وعملية لمعالجة هذه المشكلة المعقدة.

  • في معظم دول العالم، حين تعجز الدولة عن رفع رواتب مباشرة، تلجأ إلى سياسات مرنة لتعويض العاملين، لكن في الحالة السورية لا تزال مشكلة الرواتب واقعاً حزيناً يستدعي التفكير الجاد لتجاوزه سريعاً.
  • المدراء في مؤسسات الدولة لا يملكون صلاحيات تحفيزية، ولا توجد تشريعات تسمح لهم بمنح مكافآت أو زيادات إنتاجية، حتى لو توفرت الموارد داخلياً. كل شيء يجب أن يعود إلى “الوزارة” أو “القيادة العليا”، ما يجعل أي مبادرة للإصلاح الإداري تبدو صعبة.
  • في ظل هذا الواقع، هناك تخوف من عودة الفساد والرشوة إلى سابق عهدها، مع أن الثقافة الجديدة بعد التحرير تقتضي القضاء على تلك المظاهر نهائياً. وعند غياب الحوافز القانونية، يتحول الفساد مع الوقت من استثناء إلى قاعدة؛ فتصبح الرشوة وسيلة للبقاء، وتُبرَّر اجتماعياً، وتُتقبل بصمت مريب وغير مريح.

لذا، يمكن اعتماد الخطوات التالية لزيادة رواتب العاملين ضمن الطرق المشروعة:

الخطوات المرنة والشرعية التي يمكن للحكومة تنفيذها لتحسين الرواتب:

هذه الخطوات لا تشترط زيادة مباشرة في كتلة الرواتب من خزينة الدولة في سورية، لكنها تفتح المجال لرفع دخل الموظف بطرق عملية وقانونية:

1. تفعيل نظام الحوافز الإنتاجية

  • ربط جزء من راتب الموظف بأدائه الفعلي (الإنتاج، الجودة، الانضباط، المبادرة).
  • تخصيص نسبة من إيرادات المؤسسة لتحفيز الموظفين.

2. السماح بالعمل الجزئي داخل الدوام الرسمي (بنظام الساعات)

  • تقنين العمل الجزئي في مؤسسات الدولة.
  • مثال: موظف بدوام كامل يمكنه العمل لساعات إضافية مدفوعة على مشروع معين.

3. الاستفادة من ممتلكات الدولة لتوليد دخل داخلي للمؤسسات

  • تأجير مقرات أو قاعات غير مستخدمة.
  • استثمار خدمات صغيرة يعود ريعها لصندوق الحوافز.

4. منح الإدارات صلاحيات لتقدير الأداء وصرف المكافآت

  • وفق ضوابط شفافة (نقاط تقييم، لجنة تحفيز، تقارير دورية).
  • تُصرف المكافآت من صناديق المؤسسة أو من موارد خارج الميزانية العامة.

5. إطلاق برنامج “وظيفة + مشروع”

اقرأ أيضاً: فشل التسوية يدفع سامر الفوز لمغادرة سوريا والدولة تصادر ممتلكاته

  • تمكين الموظف من تنفيذ مشروع صغير بدعم المؤسسة.
  • تشجيعه عبر إعفاءات أو تسهيلات إدارية، ما دام ملتزماً بعمله الأساسي.

6. اعتماد الدفع الجزئي بالمواد أو الخدمات

  • توزيع بطاقات تموينية مدعومة أو خدمات صحية وتعليمية مجانية.
  • توفير خدمات بأسعار رمزية (تنقل، غذاء، لباس، تعليم لأبناء العاملين).

7. تمكين الجهات المانحة والمنظمات من دعم الرواتب في قطاعات محددة

  • مثل الصحة والتعليم والبلديات، عبر موازنات مشتركة أو عقود مرنة.
  • لا يكون الدعم فقط بالمشاريع، بل بإدخال جزء منه كرواتب أو حوافز.

ثانياً – التشريعات الضرورية لدعم هذه الخطوات

الحلول المرنة لا تحتاج فقط إلى “نية” من الحكومة، بل إلى جرأة تشريعية، وتحول ثقافي في فهم دور الدولة. الموظف ليس عبئاً، بل طاقة كامنة يجب تحفيزها لا تهميشها. وكل ليرة تُدفع لتحفيز العمل، هي استثمار في الكرامة، والاستقرار، والإنتاج.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

ولكي تكون هذه الإجراءات قانونية ومستدامة، يجب تعديل البيئة التشريعية. ومن أبرز التشريعات الممكنة:

1. قانون الحوافز الوطني

  • ينظم الحوافز لكافة العاملين في الدولة بطريقة موحدة وشفافة.
  • يربط الحوافز بالإنتاج والأداء وليس فقط بالراتب أو المدة الزمنية.

2. تعديل قانون العمل ليتضمن العمل الجزئي والمرن في القطاع العام

  • بما يشمل العمل بالساعات، العمل عن بعد، والدوام المتغير.

3. تشريع يتيح للمؤسسات العامة توليد دخل ذاتي

  • استثمار الموارد غير المستغلة.
  • إدخال جزء من الإيرادات ضمن صندوق دعم العاملين.

4. إقرار قانون “المكافأة مقابل المقترح”

  • منح مكافأة مالية لمن يقدم مقترحاً يوفر في التكلفة أو يحسن الأداء.
  • تفعيل مكاتب “تحسين الأداء” داخل المؤسسات.

5. تعديلات ضريبية لصالح العاملين

  • إعفاء المكافآت والحوافز من الضرائب (أو تقليلها).
  • إعفاء المشاريع الصغيرة التابعة للموظفين من الرسوم في بدايتها.

6. قانون شفاف لصناديق الحوافز داخل المؤسسات

  • إدارة علنية لهذه الصناديق بمشاركة ممثلي العاملين.
  • إصدار تقارير فصلية حول كيفية صرف الموارد.

7. قانون شراكة بين المؤسسات والمنظمات الإنسانية

  • يسهل التمويل المؤسسي المشترك.
  • يمنع تضارب المصالح، ويبقي العلاقة في إطار رسمي ومراقَب.

وفي القطاع الخاص

يُعد القطاع الخاص أكثر مرونة بطبيعته، ما يسمح باعتماد أنظمة جديدة مثل:

  • المكافآت المرتبطة بالأداء أو المبيعات.
  • التشارك في الأرباح.
  • تقديم مزايا غير نقدية مثل التأمين الصحي أو منح التعليم.

ثالثاً: توصيات وخاتمة

إن استمرار الجمود الإداري وغياب أي تصرف مرن في إدارة الرواتب والإنتاجية ينذر بخطر على المنظومة الاقتصادية والاجتماعية.

لذا نوجه نداء صريحاً للحكومة الجديدة بالحرص على:

1. تفعيل الحوافز الإنتاجية داخل مؤسسات الدولة بشكل عاجل.

2. منح مديري المؤسسات صلاحيات مرنة لتقدير الجهد وتحفيز العاملين.

3. مشاركة العاملين في اقتراح الحوافز التشجيعية.

4. سن تشريعات جديدة تسمح بأنظمة مرنة دون الخروج عن الإطار القانوني.

5. تطوير برامج تدريب حقيقية مرتبطة بخطط تحسين الأداء والراتب.

6. مكافحة الفساد عبر خلق بدائل قانونية وعادلة، لا عبر العقوبات فقط.

فبدون هذه الخطوات، ستبقى الرواتب في سورية مجرد أرقام مستغرَبة ومستهجَنة عند مقارنتها – على الأقل – بدول الجوار، وسيدفع المجتمع الثمن من كرامته، وطاقاته، ومستقبله.

أجور العملالرواتب السوريةالرواتب في القطاع العامالليرة السوريةخالد بابلليرواتب القطاع الخاصسوريا