لا تحضر السودان كثيراً في وعينا، ولا تشغل مساحات واسعة من الإعلام العربي، رغم الحرب المشتعلة هناك والتي تعتبر من أقسى الحروب التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وبلدان الربيع العربي. والتي لا تقل خطورة وضراوة وخسائر ودماء عما يحدث في غزّة أو في سوريا. وللأسف الشديد هي حرب اقتتال على السلطة ولا يدفع أحد ثمنها إلا الشعب السوداني الذي تمارس عليه مختلف أدوات الجريمة.
اعتدنا نسيان السودان وعدم الاهتمام بها، اعتدنا تجاهل ذلك البلد المفقر الغارق في الحروب والانقسامات منذ أكثر من نصف قرن، رغم طيبة أبنائه ونقائهم، اعتدنا على تقسيمه، وعلى تحكم أمراء الحرب به، فرحنا قليلاً بثورته، ولم نكن نعلم أننا نفرح بتحوله إلى الجحيم، أو لنقل لم نكن نهتم بالمرحلة المقبلة.
كان السودان وحيداً، وحاول أن يتلمس طريق الحرية وحيداً، وانتصر وحيداً، وهو اليوم يتجرع قسوة الحرب وحيداً، لا أحد يهتم له كما ينبغي، ولا بواكي لأبنائه، وكأنهم من عالم آخر، لا تجمعنا معهم صلات الدم والدين والإنسانية.
منذ نيسان الماضي والحرب مشتعلة بين الجيش السوداني بقيادة البرهان، وفصائل قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، والخلاف على قيادة السودان وتقاسم غنائم البلاد بعد الثورة التي أطاحت بالبشير.
في البداية تمت الإطاحة بالقيادة المدنية التي رسمت الأمل للسودانيين، ليدخل السودان أزمة مستمرة منذ تشرين الأول 2021 إثر انقلاب رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان على حلفائه في تحالف قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، وحلّ مجلسي السيادة والوزراء، وفرض حال الطوارئ. ووقّع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وثيقة لحل الأزمة مع المكون العسكري في مجلس السيادة، لكن القوى المدنية التي كانت تشكل عماد الحكومة رفضتها، مما دفع حمدوك إلى الاستقالة.
وإثر تعقد المشهد واستمرار الاضطرابات وصلت الأطراف المتحاربة إلى “اتفاق إطار” لحل الازمة، والذي نال دعماً دولياً، ولكن هذا الاتفاق فجّر خلافاً بين الجيش وقوات الدعم السريع، وقاد إلى حرب في منتصف نيسان الماضي لم تشهدها العاصمة الخرطوم منذ أكثر من 100 عام، امتدت إلى كردفان ودارفور وراح ضحيتها الآلاف، وشردت الملايين، وباتت تهدد بتشظي البلاد وأعادت تقسيمها ولا زالت مستمرة إلى اليوم.
الجيش يقول أنه يقضي على قوى متمردة، ولكنه لا يهتم بالضحايا المدنيين الذين يقتلهم في قصفه للمواقع التي تتحصن بها هذه القوى والعصابات، وقوات الدعم السريع تنتهك كل السودان من أجل أن تحافظ على قوتها وتمّول الحرب التي تخوضها من دماء وأملاك السودانيين حيث تحولت إلى عصابات قتل ونهب واغتصاب تجوب كل منطقة في السودان
تقدر المسروقات من السودانيين خلال فترة الحرب بحوالي 45 مليار دولار، وتقدر خسائر الحرب في السودان من دمار للاقتصاد والبنى التحتية في بلد كان يتلمس طريقه للنهوض بحوالي 108 مليار دولار بحسب مصادر سودانية، مما أعاد السودان عشرات السنين للوراء، وجعلته بلداً أكثر فقراً وتشرداً.
يشهد السودان اليوم أكبر حركة نزوح داخلي مستمر في العالم، ويعاني أكثر من نصف سكانه من العوز والجوع واحتمالية القتل في معارك الشوارع ونهب ما تبقى لهم من قوت للحياة، بالإضافة إلى أكبر عمليات اغتصاب للنساء والقاصرات يشهدها العالم في حرب بين قوى متصارعة على الحكم، في ظل تجاهل إعلامي وإقليمي ودولي للمشكلة ومحاولة كل الأطراف تدمير السودان بشكل أكبر من أجل مصالح الدول التي تدعم أطراف الصراع والسيطرة على الموقع الاستراتيجي للدولة.
الولايات المتحدة وروسيا وإيران والإمارات دول مشاركة بشكل مباشر في دعم أطراف الاقتتال، بهدف إحكام سيطرتها على سواحل البحر الأحمر وسرقة ما تبقى من ثروات البلاد، البلاد التي كانت واحدة من أكثر الدول العربية تعلماً وثقافة واستقلالية في المنطقة، فتمّ تدميرها بشكل ممنهج، وتمّ القضاء على سكانها وتهجيرهم.
يحتاج السودان والسودانيون منّا أن يكونوا حاضرين في وعينا، وفي إعلامنا وأن نسلط الضوء على معاناتهم وعلى المجازر والجرائم التي ترتكب في حقّهم، تحتاج الإنسانية وصلة الدم والدين منّا أن لا نترك السودان وحده وكأنه دولة على هامش العالم، لا أحد يهتم بما يجري به وكأن السودانيين أنصاف بشر، أو كأن السودان دولة كُتبت عليها الحرب والانقسام ولا أحد يأبه لها، نحتاج أن نرى في السودان ما نراه في غزّة وفي القدس وفي سوريا، فالدماء كلها مقدسة.
نحتاج أن نخجل ونعتذر عن تقصيرنا بحق إخواننا في السودان، وأن نطالب بوقف هذه الحرب التي تقتل الأطفال والنساء والرجال كل يوم من أجل حفنة من المجرمين يريدون السيطرة على الحكم حتى ولو حولوا كل السودان إلى مقبرة.
السودان لم تنس أحداً، لم تنس سورية ولا فلسطين ولا مصر ولا المغرب، ولا أي أحد … السودانيون دائماً كانوا حاضرين في الملمّات، فيجب ألا نجعل قدرهم النسيان، وألّا تبقى السودان غائبة عنا، أو مغيّبة …