الصنعة الفنية بحلب.. بين الماضي والحاضر

أ. محمد علي بحري

عندما كنتُ في الفن مع أقراني من الشباب في منتصف الثمانينات وحتى أواخر التسعينيات، كانت حلب تعجُّ بالفنانين والمنشدين وعشاق الموشحات والأوزان والمقامات، وكنا نتنافس ونتسابق ونبحث بشغف وحرص ما بعده حرص؛ للعثور على موشح بديع، أو ممَّا لا يحفظه أحد، أو ممَّا هو مركون في نوادر التسجيلات الموجودة على أشرطة البَكَر، أو في الكاسيتات، أو في صدور بعض من يحفظه من الذمم المتبقية من القدماء المعروفين بشحِّهم المعروف في إعطاء ما لديهم.

كان أحدنا يفرح لعثوره على موشح إيقاعه شنبر 24، أو مخمس 16، أو مربع 13، أو فاخت ..إلخ، أو ممَّا مقامه غير مطروق مثل النكريز، والنوى أثر، والشوق أفزا، والزنكلاه ..إلخ.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

كنا نجتمع في سهرات مسائية تمتد في معظم أحيانها حتى الفجر، لا نتوقف فيها عن غناء وصلات الموشحات والتفنن في توقيع ضروبها، وينبري كل واحد ليخرج عدة موشحات حصل عليها بشق الأنفس وانفرد بحفظها عنَّا أو انفردنا نحن عنه، وكنا نشعر تجاهه بالغبطة ونبدي إعجابنا الشديد لهمته وبحثه وتحصله على ما ليس لدينا.

كان مخزون كل واحد منا كبيرًا، وكنا حثيثين في الطلب، ولا نتوقف عن البحث والتنقيب واقتناء الموشحات وخصوصًا التي تحتوي على ميزان إيقاعي كبير أو فني أو نادر وكذلك مقاميًا.

أما اليوم فأرى الفنانين، مطربين، ومنشدين، وموسيقيين، يجْترُّون ما تناولوه من 20 سنة، وليس لهم من الفن إلا التكرار والإعادة والصقل مع إضافة التشويه والتحريف والزيادات السمجة مع كل مرة يقدمون فيها تلك الموشحات.

اقرأ ايضاً:  الشيخ عكرمة صبري يتراجع عن دعائه لبهجت سليمان (فيديو)

بل إن بعضهم راح يستورد من مصر تواشيح دينية أداها هناك كبار المنشدين المصريين، ويغنيها مع إضافات سمجة لا وجود لها، وتعافه النفوس والذوق الفني، رغم وجود  الكثير من الموشحات الحلبية القديمة وغيرها مما لم يغنَّ أو أُدِّي بشكل نادر.

أصبح الموسيقيون والمنشدون والفنانون، ومنذ فترة بعيدة، لا جديد لديهم، وهم لا يبحثون ولا يحفظون إلا بما يطلبه الجمهور الجاهل ثقافيًا وموسيقيًا، فهؤلاء لا أُسميهم فنانين ولا منشدين، بل هم مجرد خراصون في مطاعم الغناء والإنشاد الجماهيري، بغية الوصول إلى شهرة والحصول على التكسب والمال، فالموشح الذي لا يلزمهم مهما كان إيقاعه ومقامه ومكانته الفنية وتصنيفه الموسيقي العالي، لا يلتفتون إليه ولا يحفظونه ولا يكترثون به، لكسلهم وبخس مطلبهم، أو لأنهم لا يفهمون قيمته لسقم أذواقهم الفنية وانحرافها، أو لأنه صعب الحفظ، أو هو في النهاية ممَّا يمجه ويستنكره جمهورهم الحلوب.

والمحزن أكثر أنه بالإضافة إلى ما مرَّ تجد أحدهم يظن نفسه عملاق الفن، وآخر شيخ المنشدين، وآخر ملك الغناء والصنعة، وآخر أستاذ الموسيقيين وملك العازفين، وفلان هو المدرس الموسيقي والملحن الكبير والمعلم، وهلمَّ جرَّا، في حين كلهم يعتاشون على فتات من الماضي يشوهونه كلما تطلَّب الأمر.

مدينة حلب لها تاريخ فني وموروثي عريق، أنجبت مطربين وموسيقيين ومنشدين كبار ما يصعب سرده في هذا المقام، لكنها اليوم تعيش غربة فنية، لاتخاذ الفن تجارة ورضا لما يطلبه الجمهور الجاهل، لا سيما من بعض الحلبيين أنفسهم فضلًا عن غيرهم ممَّن يشوه مدينة الفن بتأدية أشياء أقل ما يقال عنها هابطة، والأَمر من ذلك امتلاك البعض لنفوس عالية، ولعن ومحاربة من يحاول أن يضيء شمعة وسط ذلك الظلام الدامس البهيم.

أ. محمد علي بحريالفن الحلبيالمقاماتالموشحاتحلبريف حلبسوريامدينة حلب