“الطفولة المفقودة” واقع عمالة الأطفال في الشمال السوري المحرر

مريم إبراهيم

تعد ظاهرة عمالة الأطفال من أبرز التحديات الاجتماعية والإنسانية التي تواجه المجتمع في المناطق المحررة من الشمال السوري، فقد أسهمت سنوات الحرب الطويلة في تفاقم الظروف الاقتصادية والاجتماعية، مما دفع العديد من الأسر إلى الاعتماد على عمل أطفالهم كوسيلة مساعدة على تأمين احتياجات الحياة.

واقع مؤلم

في ظل هذا الواقع المؤلم، نجد أن الأطفال يجبرون على تحمل أعباء لا تتناسب مع أعمارهم، ويحرمون من حقوقهم الأساسية في التعليم واللعب والنمو السليم، إن هذه الظاهرة لا تؤثر فقط على الحاضر، بل تضع مستقبل جيل كامل على المحك، مما يستدعي تظافر الجهود لمواجهة هذه الأزمة بفعالية.

يعمل الأطفال في بيع البسكويت وغيره من السلع كالمناديل الورقية والمياه الباردة على الأرصفة وفي الطرقات”فارس”، البالغ من العمر 10 سنوات من بلدة الهبيط، هو أحد هؤلاء الأطفال العمال الذين يواجهون تحديات صعبة في حياتهم اليومية.

معاناة مستمرة

يقف فارس على رصيف في مدينة معرة مصرين بملامح بائسة، يعمل كبائع متجول للبسكويت في محاولة لكسب بعض المال، يسير وراء السيارات، من واحدة إلى أخرى، من شخص لآخر، عارضا عليهم السلع التي يبيعها يومياً بابتسامة دائمة على وجهه، تحت أشعة الشمس الحارقة، يشعر فارس بالتعب والإرهاق الذي يتزايد مع كل سيارة جديدة تمر، بخطوات ثقيلة، يسمع كلمات الناس التي تجعله يشعر بالذل والإحباط
((روح ياعمي _والله قبل شوي كنت عم اشتغل شغلتك_مابقى تبطلو هالعادة_ الله يرزقك يا ابني لابقا تدق ع بلور السيارة ))

يقول فارس: “توفي والدي وأنا بعمر 5سنوات، وأخواتي جميعهم صغار وأنا أكبرهم ولا نتلقى من أي أحد مساعدة، تعمل أمي في قطاف الخضار، ضمن الاراضي الزراعية داخل بلدة معرة مصرين، لكنها بعملها لا تستطيع تأمين احتياجات المنزل من طعام ودواء وكسوة.”

فارس وغيره من الأطفال قصص مؤلمة بوجوه مختلفة

لم تعد حالة فارس فريدة، هناك اعداد كبيرة لأطفال مثله في الشوارع والأحياء والمعامل وداخل الورش السوقية، يعملون لكسب قوت يومهم، تعكس هذه الظاهرة ضعف النظام الاجتماعي والاقتصادي وانتشار الفقر والعوز.

أم فارس تعمل أيضاً لكن بأجر زهيد لا يكاد يكفيها، لذا كانت تعتمد على فارس لمساعدتها في الأمور اليومية، الحياة صعبة جداً على فارس، حيث يضطر للعمل لساعات طويلة في الشوارع المحلية مايقارب حوالي 10ساعات على الاقل لكسب بعض النقود لتأمين لقمة عيش عائلته.

أما “لمياء” 8 سنوات ابنة بلدة معرة مصرين تحمل في يديها سلة وضعت فيها بعض المناديل الورقية وقطع من البسكويت زهيد الثمن لتجذب المآرة تتحمل حر الشمس كما برد الشتاء، لتساعد والدها الذي يعمل في سوق الهال “عامل تحميل” ويتقاضى 80ليرة يوميا ما لايكفي لشراء الخبز فقط.

اقرأ  أيضاً: روسيا: التطبيع التركي مع الأسد يشغل أهمية حيوية

مثل العديد من الأطفال في مخيمات “قاح تجمع لأجلكم”، يعيش “قيس” البالغ من العمر 10 سنوات حياة بعيدة عن الطفولة، تروي والدته بحزن: “يعمل قيس في ورشة ميكانيك، ويعود كل يوم مرهقًا بعد يوم عمل يتجاوز 12 ساعة، غير قادر على تلبية احتياجاته الأساسية من الطعام والنوم”،وتضيف بعينين تملؤهما الدموع “لقد نسي قيس ألعابه وأصدقائه وحتى نفسه ومدرسته، بات يتحدث ويتصرف كالكبار في جسد صغير متعب، وعينين خاليتين من بريق الطفولة، أشعر بالأسى والحزن الدائم لأننا اضطررناه إلى العمل”.

لقاءات
التقينا الإستاذ “بلال محمود خليفة”مستشار تربوي ومختص بحماية الطفل حدثنا عن الموضوع فقال: عمالة الأطفال مشكلة من أكبر المشكلات التي يتعرض لها الأطفال، وهو موضوع صعب في ظل واقع صعب تعيشه سورية، لقد انتشرت عمالة الأطفال لأسباب متعددة من أهمها التسرب المدرسي والفقر، وهذه العمالة ألحقت الأطفال بمهن متعددة وظروف عمل فوق تحمل الأطفال منها :
((- بائع متجول
– جامع خردة
– بائع في السوق
– عامل في ورشة تصليح ميكانيك
– مساعد في محلات الالبسة والاكسسوارت
– عامل في الأفران
– عامل في المقاهي والمطاعم)) وغيرها.
يكمل خليفة كلامه فيقول:في ظل هذا الواقع عملت المنظمات الإنسانية على مواجهة ذلك التحدي الكبير، واستجابت ضمن إمكانياتها، ورغم تلك الجهود الكبيرة في العمل الإنساني وتحسن الحياة الاجتماعية قليلاً بعد الاستقرار الجزئي إلا أنّ هناك الكثير من الأطفال يواجهون العمالة!

يحتاج الأطفال وأسرهم إلى الدعم، وإلى برامج هادفة تصب في الحد من العمالة أو منعها، يحتاج الأطفال أيضاً إلى برامج الدعم النفسي بسبب الضيق النفسي والاجتماعي الذي لحق بهم، يحتاج الأطفال إلى مزيد من الاهتمام ومزيد من مكافحة العمالة.

الأسباب والدوافع
عمالة الأطفال تعد ظاهرة متعددة الأبعاد ومعقدة، وتتأثر بالعديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، من أبرز الأسباب الاقتصادية التي تؤدي إلى عمالة الأطفال ما يلي:
_الفقر هو السبب الرئيسي لعمالة الأطفال، عندما تكون الأسر غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية، يصبح عمل الأطفال وسيلة لضمان البقاء.

_البطالة أو عدم استقرار العمل بين البالغين يجبر الأسر على الاعتماد على دخل إضافي من عمل أطفالهم .

_في الحالات التي يعمل فيها الآباء، قد يكون الدخل غير كاف لتغطية جميع نفقات الأسرة، مما يدفع الاهل للجوء للأطفال للمساهمة في تحسين الوضع المالي بالدخول لسوق العمل بإعمار مبكرة.

_ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار السلع والخدمات يمكن أن تؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للأسر الفقيرة، مما يجعلها تحتاج إلى دخل إضافي يأتي من عمل الأطفال.

نتائج عمالة الاطفال المحتملة
“التعليم المحدود أو المنقطع”
– الأطفال الذين يعملون غالباً ما يضطرون للتسرب المدرسي ، مما يؤدي إلى الحرمان من التعليم والمعرفة، وبالتالي يقلل من فرصهم المستقبلية في الحصول على وظائف جيدة.

“المشاكل الصحية”
الطقس الحار ضمن منطقة الشمال السوري المحرر يزيد تعب الأطفال العمال، درجات الحرارة المرتفعة تزيد من الاجهاد وتقلل الطاقة والقدرة على العمل، مما يتسبب في تأثير سلبي على صحتهم وعلى قدرتهم على أداء واجباتهم اليومية.

” الأعمال الشاقة”
تؤثر الاعمال الشاقة سلباً على صحة الأطفال، حيث يتعرضون للإجهاد البدني والإصابات، بالإضافة إلى مخاطر التعرض للمواد الكيميائية الضارة ((داخل معامل المنظفات التي يدخل في صناعتها مادة “الكلور “وغيرها))أو العمل بأعمال البناء التي تتطلب مجهوداً كبيراً ونسبة الخطر فيها كبيرة لانها تتطلب أحيانا تحميل أوزان ثقيلة أو صعود الاطفال إلى أبنية مرتفعة.

“الاثار على النمو والعقل”
يمكن التركيز على التأثير السلبي للعمالة على صحة الأطفال الجسدية والعقلية والاجتماعية، وكيف أن العمل في سن مبكر يمكن أن يؤثر على نموهم وتطورهم العقلي.

“الآثار النفسية والاجتماعية”
– الأطفال العاملون غالباً ما يعانون من ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة، بما في ذلك القلق، الاكتئاب، وفقدان الثقة بالنفس، كما يمكن أن يؤدي العمل إلى عزلتهم عن أقرانهم وتقليل فرصهم في بناء علاقات اجتماعية صحية.

“الاستغلال والإساءة”
– يتعرض العديد من الأطفال العاملين للاستغلال من قبل بعض أصحاب العمل، سواء من خلال ساعات العمل الطويلة، الأجور المتدنية، أو حتى الإساءة الجسدية والنفسية.

“التأثير الاقتصادي طويل الأمد”
– عدم حصول الأطفال على تعليم جيد وتعرضهم لظروف عمل قاسية يمكن أن يؤدي إلى دورة مستمرة من الفقر، حيث يصبح هؤلاء الأطفال أقل قدرة على تحسين أوضاعهم الاقتصادية في المستقبل.

إحصائيات
خلال الحرب في سوريا ازداد عدد الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة في سوريا حوالي 2.4 مليون طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و17 عاماً، من أصل 5.5 مليون طفل، وفق تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، في آذار/ مارس 2024.

كما أشار تقرير في شباط/ فبراير 2024، لفريق “منسقو استجابة الطارئة”، إلى أن عمالة الأطفال تشكل الهاجس الأكبر ضمن مخيمات النازحين، إذ تتجاوز نسبة الأطفال العاملين، من الفئة العمرية بين 14 و17 عاماً، 37 بالمئة من إجمالي الأطفال الموجودين في مخيمات النزوح.

تفسر معدلات الفقر في شمال غرب سوريا، التي وصلت هذا العام إلى “أعلى مستوياتها على الإطلاق مقارنة بالأعوام السابقة” سبب تسرب الأطفال من المدارس وتوجههم إلى سوق العمل، وبحسب “منسقو الاستجابة” وصلت معدلات البطالة في المنطقة إلى 88.74 بالمئة.

استراتيجيات للحد من عمالة الأطفال

يمكن التركيز على الجهود التي تبذلها المنظمات الدولية والحكومات والمجتمع المدني في محاربة عمالة الأطفال، إلقاء الضوء على البرامج والمشاريع التي تهدف إلى إنهاء عمالة الأطفال وتحسين ظروف الأطفال المتضررين.

التركيز على ما يمكن فعله على المستوى الفردي للتأثير في مكافحة عمالة الأطفال، سواء كان ذلك عن طريق الوعي والتثقيف أو عن طريق دعم المنظمات غير الحكومية و الحكومية والشركات الاجتماعية المسؤولة.

القضاء على عمالة الأطفال يمثل تحد كبير، لكنه ليس مستحيلًا، يجب أن تكون لدينا رؤية مستقبلية والتزام قوي من جميع الأطراف لحماية حقوق الأطفال وإعطائهم الفرصة للحصول على طفولة صحية ومستقبل أفضل.

عمالة الأطفال ظاهرة غير أخلاقية وغير قانونية، ويجب أن نعمل معا للقضاء عليها من خلال العمل المشترك وتطوير السياسات الفعالة وتحويل الوعي العام إلى إجراءات عملية، من خلال هذا الجهد المبذول، يمكننا أن نخلق عالمًا أفضل لجميع الاطفال في المستقبل .

يجب أن يكون هناك تعاون بين الجهات المعنية للعمل على إيجاد حلول جذرية لظاهرة عمالة الأطفال في الشوارع والسوق السوداء وغيرها يهدف ذلك إلى توفير بيئة آمنة ومستدامة للأطفال، حيث يتمتعون بحقوقهم الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم والحماية من الاستغلال والعمل الخطير.

إدلبالتعليمسورياعمالة الأطفالواقع التعليم