العدالة بين هاوية العنف ونسيان الماضي

المحامي: ممد الحربلية

بعد سقوط النظام المجرم، اتبعت الحكومة السورية مقاربة تهدف – من وجهة نظرها – إلى تحقيق السلم الأهلي والمصالحة. تجلى ذلك من خلال منح فلول النظام البائد فرصة لإلقاء السلاح وإجراء التسويات لهم، وملاحقة الرافضين بوصفهم خارجين على القانون. لكن تلك التسويات شملت حتى المتورطين في ارتكاب الجرائم والانتهاكات في عهد النظام.

منحت تلك التسويات للفلول المتحصنة في مناطق الساحل فرصة لإعادة تنظيم صفوفها بدعم من أطراف خارجية، حيث بدأت بالتحرك عندما جاءتها الأوامر، وهاجمت مراكز الأمن العام وقتلت وأسرت العشرات من العناصر، قبل أن تستعيد قوات الجيش زمام المبادرة وتبسط سيطرتها على تلك المناطق.

تلك الأحداث الخطيرة دقت ناقوس الخطر، وأكدت أن البلاد عند مفترق طرق: إما التسامح والصفح، أو العنف والانتقام، أو المحاسبة والعدالة في إطار القانون.

اقرأ أيضاً:  الساحل السوري.. عمليات أمنية واسعة لوزارة الداخلية لاستعادة الاستقرار

التسامح والصفح:

كانت التسويات الجماعية التي منحتها السلطة لمقاتلي النظام بمثابة صفح عنهم، رغم أن معظمهم متورطون في ارتكاب الفظائع بحق السوريين. وهو ما اعتبروه ضعفاً من السلطة، فاغتنموا الفرصة للتمرد وتنفيذ مخططاتهم في ضرب الأمن والاستقرار وتحقيق أجنداتهم الانفصالية.

بينما اعتبر أبناء الثورة أن عمليات الصفح إضاعة لحقوقهم، واستهانة بما قدموه من تضحيات جسيمة على مدار السنوات الماضية. وهو ما قد يدفع البعض منهم إلى الثأر والقصاص خارج نطاق القانون. في كمبوديا، أصدرت الحكومة عفواً عن مجرمي الخمير الحمر بهدف تشجيعهم على إلقاء السلاح، إلا أن ذلك قد تسبب في استياء شعبي واسع، مما دفع الحكومة لبدء التفاوض مع الأمم المتحدة على إنشاء المحكمة المختلطة عام 1997.

ورغم أن الصفح أحد متطلبات العدالة الانتقالية، إلا أنه يجب أن يستثني كل من اشترك مع النظام البائد في ارتكاب الجرائم والانتهاكات بحق الشعب السوري.

العنف والانتقام:

غالباً ما تشهد حالات التغيير الثوري بعد إسقاط الأنظمة الاستبدادية أعمالاً انتقامية واسعة كرد فعل طبيعي على إجرام السلطة، وهو أمر وارد في سوريا كلما تأخرت عملية الملاحقة والمساءلة. لكن الثمن قد يكون باهظاً، حيث يؤدي إلى دخول البلاد في دوامة مستمرة من العنف. في رواندا، كان نظام الحكم الاستبدادي الذي فرضه التوتسي ضد قبائل الهوتو سبباً دافعاً لهذه الأخيرة من أجل ارتكاب الإبادة عندما سنحت لهم الفرصة، وبالمقابل عندما عاد التوتسي إلى الحكم، ارتكبوا أيضاً أعمال انتقامية مروعة ضد الهوتو.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا

كما يولّد العنف انقسامات حادة في المجتمع، مما يهدد الأمن والاستقرار، ويضعف شرعية السلطة الجديدة. ففي رومانيا، وبعد إسقاط النظام الشيوعي عام 1989، تسببت أعمال الانتقام ضد أنصار النظام السابق في حالة غضب واستياء واسع لأن الحكومة الجديدة كانت غير قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار.

من نافلة القول أن القصاص خارج القانون لا يمكن أن يقود إلى تحقيق العدالة والإنصاف وإغلاق صفحة الماضي، بل الاستمرار في دوامة لا متناهية من العنف.

المساءلة والمحاسبة:

يطالب السوريون بضرورة تحقيق العدالة ومحاسبة المجرمين، وهي المقاربة الواقعية التي تمنع انزلاق البلاد نحو هاوية العنف، وتحقق العدالة والإنصاف للضحايا.

تؤدي المحاكمات دوراً حاسماً في ردع المجرمين وحماية المجتمع منهم، فقد شكّلت المحاكمات التي جرت في يوغسلافيا وسيراليون رادعاً لعدم تكرار المذابح في كلا البلدين.

إن بقاء الجناة دون محاسبة يعني استمرار حالة إنكار العدالة، ويشكل عاملاً للانتقال لحالة العنف ويقوّض السلم الأهلي ويعيق عملية التحول الديمقراطي. من هنا كانت المحاكمات أهم آليات العدالة الانتقالية لتجاوز إرث الماضي.

في رواندا، لعبت الملاحقات الجنائية التي جرت في البلاد عبر المحكمة الجنائية الدولية الخاصة التي أُنشئت بقرار مجلس الأمن عام 1994، والمحاكم الجنائية المحلية في رواندا، والمحاكم المجتمعية (جاغاغا)، دوراً حاسماً في تجاوز إرث الماضي الدامي. وقد مهد ذلك لتحقيق الاستقرار والتعايش السلمي، فضلاً عن اتباع آليات أخرى تمثّلت في جبر الضرر والإصلاح المؤسسي، مما ساعد الشعب الرواندي على التعافي والتخلص من النزعة العرقية التي تسببت في الانقسام. تؤكد تجربة رواندا أن مكافحة الإفلات من العقاب أمرٌ ضروري لتعزيز السلام المستدام والتماسك المجتمعي في البلاد.

إن إنصاف الضحايا في سوريا يستوجب محاكمة المجرمين كمطلب أساسي، فضلاً عن تطبيق آليات أخرى تتمثل في التعويض وجبر الضرر للضحايا الأشد ضرراً، وتطهير المؤسسات من المتورطين في الجرائم، وتنفيذ عملية إصلاح تشريعي شامل تقوم على إلغاء كافة القوانين التي شرّعت الانتهاكات، ورد الممتلكات التي تم الاستيلاء عليها بتسهيل وتواطؤ من النظام البائد. وبطبيعة الحال، ينبغي حفظ الذاكرة لضمان عدم التكرار، لأن من ينسى ماضيه سوف يعاقب بتكراره.

الإفلات من العقابالساحل السوريالعدالةاللاذقيةالمحاسبةحلبدمشقسوريافلول الأسدمحمد الحربلية