تتداخل خيوط الأمل مع آثار الحرب، حيث يعيش سكان الشمال السوري المحرر تحت وطأة تحديات يومية تزداد صعوبة يوماً بعد يوم. بين أنقاض المعاناة وشجاعة البقاء، تظهر مشكلة العقم كجرح صامت متكلم يخفي وراءه آلام الكثير من الأزواج، مضيفاً طبقة أخرى من الأعباء على حياة البعض. في هذا الجزء المتعب من الخريطة السورية، يتجاوز العقم كونه مشكلة طبية ليصبح معاناة للعديد من الأشخاص الذين يحلمون بالإنجاب وحياة طبيعية.
تعريف العقم وأسبابه
يعرف العقم عند الرجال والنساء كعدم القدرة على الإنجاب بشكل طبيعي بعد مرور فترة زمنية من المحاولات الطبيعية للحمل. تعتبر الأسباب المتعددة للعقم قضية حساسة ومعقدة، حيث قد تكون الأسباب مرتبطة بالجنس الذكري أو الأنثوي، أو بالعوامل التناسلية الأخرى.
أنواع العقم:
1. العقم الأولي: عندما لا يحدث حمل أبداً.
2. العقم الثانوي: عندما يحدث حمل سابق ولكنه لا يتكرر.
كما يوجد عقم غير مفسر علمياً وليس له علاج إلا الحقن المجهري أو طفل الأنابيب.
“فطينة، 34 عامًا، (اسم مستعار) من بلدة حزانو” منذ خمسة عشر عامًا، بدأت رحلة فطينة مع العقم، رحلة لم تكن يوماً سهلة أو خالية من المتاعب. بدأت معاناة فطينة بعد عام من زواجها، حيث حلمت بأن تكون أماً، لكن حلمها تلاشى أمام حقيقة مؤلمة: العقم كان عائقًا لا يمكن تجاوزه بسهولة. حاولت فطينة وزوجها جاهدين من خلال مراجعة الأطباء أن يصبح لديهما طفل لكن دون جدوى، مما أدى في النهاية إلى انهيار زواجهما وطلاقهما، وكانت هذه الفترة بداية لجروح نفسية لم تلتئم.
بعد فترة، تزوجت فطينة مرة أخرى، حاملة معها الأمل بأن يكون هذا الزواج بداية جديدة وفرصة لتحقيق حلم الأمومة، لكن عقم فطينة كان حاضراً بقوة في حياتها. لم يستطع زوجها أن يقف بجانبها ويدفع لها تكلفة السفر والعلاج إلى دمشق، مما دفع أهلها إلى دعمها مالياً ونفسياً. قررت فطينة اللجوء إلى عمليات طفل الأنبوب في دمشق، وتحملت عناء السفر والخطر الكبير الذي رافقها خلال ذهابها من شمال سوريا إلى العاصمة دمشق عبر طرق التهريب، حيث كان الخطر يترصد كل خطوة تخطوها كونها قادمة من منطقة المعارضة إدلب. ثلاث مرات قامت فطينة بعملية طفل الأنبوب، وثلاث مرات باءت بالفشل، ليس نتيجة لتقصير طبي، بل بسبب الظروف النفسية والجسدية التي مرت بها، حيث كان الإرهاق والخوف الذي عانته خلال التهريب كفيلاً بإجهاض كل حلم جديد.
تعيش فطينة اليوم بين جدران كلمة “ماما”، تبحث عنها في كل زاوية من حياتها. حالة فطينة ليست الوحيدة، فهناك العديد من الحالات من رجال ونساء يعانون من العقم الذي كسر جدران حياتهم وجعلهم يشعرون بالعجز والنقص.
“محمد، 40 عاماً،(اسم مستعار) نازح في مدينة إدلب” يعاني محمد من مشاكل صحية جعلته عاجزاً عن الإنجاب رغم مرور عشر سنوات على زواجه. يشعر بالعجز أمام مواجهة الظروف الصعبة التي يمر بها. يعاني محمد من لزوجة وضعف في النطاف، بالإضافة إلى دوالي في الخصيتين، مما أثر بشكل مباشر على قدرته على الإنجاب، رغم سلامة زوجته الصحية والإنجابية.
لم يتمكن الزوجان من تحقيق حلمهما في أن يصبحا والدين. دفعت هذه المشاكل الصحية محمد لمراجعة العديد من الأطباء المختصين بالعقم في مشفى الحياة التخصصي في الدانا محاولاً بشتى الوسائل حل مشكلته. يشعر محمد بالعجز والخجل أمام زوجته وأهله وذويه، كونه رجلاً غير قادر على الإنجاب، مما أدى إلى تدهور حالته النفسية. هذا الشعور بالعجز والضغط الاجتماعي أثر سلباً على استجابته للعلاج الدوائي، مما أدى إلى تفاقم حالته الصحية.
اقرأ أيضاً: دراسة تكشف: 40% من حالات السرطان و50% من الوفيات يمكن تجنبها بتغييرات في نمط الحياة
“ليلى، (اسم مستعار) 28 عاماً” أصبحت أماً بعد زواج دام خمس سنوات بعد عملية بالحقن المجهري تمت في المشافي المتواجدة بالمنطقة. تقول ليلى: “شعور الأمومة شعور لا يقدر بثمن. عانيت كثيراً أنا وزوجي، ولكن الحمد لله فقد أنعم الله علينا بطفلة جميلة “سيلين” بعد صبر ومعاناة كبيرة”.
يقول الطبيب “جابر الداي، أخصائي جراحة بولية وتناسلية، 48 عاماً”: “العقم هو حالة طبية تعتبر من أكثر المشاكل الصحية التي تؤثر على الأزواج حول العالم، حيث يتعذر عليهم تحقيق الحمل بشكل طبيعي بعد مرور عام أو أكثر من المحاولات المتواصلة دون اللجوء إلى وسائل منع الحمل. يمكن أن يكون العقم ناتجاً عن عدة عوامل متنوعة، تشمل العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، وقد يؤثر على الإنجاب عند الرجال والنساء على حد سواء”.
العوامل المؤثرة في العقم
تعتبر العوامل البيولوجية من أبرز العوامل المساهمة في حدوث العقم، حيث يمكن أن تكون هناك مشاكل في الجهاز التناسلي لكل من الرجل والمرأة. عند الرجال، قد تكون نوعية الحيوانات المنوية غير كافية أو تكون هناك مشاكل في الوظائف الهرمونية أو تشوهات خلقية في الجهاز التناسلي. أما عند النساء، فإن العقم قد يكون ناتجاً عن مشاكل في التبويض، تضيق في قنوات فالوب، تشوهات في الرحم، أو وجود تكيسات في المبايض.
بالإضافة إلى العوامل البيولوجية، تلعب العوامل النفسية والاجتماعية دوراً هاماً في تأثير العقم. قد يعاني الأزواج الذين يواجهون صعوبات في تحقيق الحمل من مشاعر الإحباط والضغط النفسي، مما قد يؤثر سلباً على قدرتهم على التفاعل الجنسي وبالتالي يزيد من صعوبة حدوث الحمل. وقد تزيد الضغوط الاجتماعية من هذه المشكلة، خاصة في المجتمعات التي تضع ضغوطاً كبيرة على الأزواج لتحقيق الإنجاب.
يضيف الطبيب جابر الداي: “التعرض للمبيدات الحشرية والتعرض المباشر المتكرر للاشعة السينية المستخدمة بمراكز التشخيص الشعاعي وخصوصا العاملين في هذا المجال أو في حالات العلاج بالأشعة بالنسبة للمعالجة من الأورام والسرطانات.
، والأمراض الجنسية يضع الأفراد في خطر متزايد للإصابة بالعقم. ولكن هناك العديد من الحالات التي تظل أسبابها مجهولة وغير مفسرة بشكل كامل، مما يزيد من تعقيد تشخيصها وعلاجها. وفي الشمال المحرر، لا توجد دراسات دقيقة لتحديد مدى انتشار العقم، مما يجعل تقديرات الدكتور جابر تعتمد على الملاحظة والخبرة الطبية المباشرة”.
تكشف الإحصائيات التي قدمها الطبيب جابر الداي أن نسبة العقم في المنطقة تصل إلى 15% من السكان، مما يعني أن واحداً من كل سبعة أشخاص يعاني من هذه المشكلة.
علاجات متعددة وتكلفة باهظة
العلاج للعقم في الشمال المحرر ينقسم إلى عدة أنواع: العلاج الدوائي، العلاج الجراحي، واستخدام تقنيات الإخصاب المساعد مثل الحقن المجهري وطفل الأنابيب. للأسف، لا توجد خيارات علاج مجانية بسبب نقص التمويل والدعم لعلاج العقم في المنطقة، مما يعني أن العلاج يتم حصراً في المراكز الخاصة، حيث تتراوح تكاليف العلاج من مئات الليرات التركية إلى آلاف الدولارات، مما يشكل عبئاً كبيراً على الأسر ذات الدخل المحدود.
التشخيص والعلاج: مفتاح النجاح
التشخيص الصحيح للحالة هو أساس العلاج الفعال. بناءً على هذا التشخيص، يمكن توقع التكلفة والإجراءات اللازمة للعلاج. عندما يفشل العلاج الدوائي، يلجأ المرضى إلى وسائل الإخصاب المساعد مثل الحقن داخل الرحم الذي تبلغ تكلفته حوالي 150 دولاراً، ونسبة نجاحه تتراوح بين 5% إلى 10%. أما الحقن المجهري وطفل الأنابيب فتصل تكلفتهما إلى 1500 دولار، مع تكاليف التحاليل والصور التي قد تصل إلى 700 دولار، وتبلغ نسبة نجاحها حوالي 25% إلى 30%.
تزايد ملحوظ بالحالات
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
يزداد عدد حالات العقم الجديدة بمعدل 150 حالة شهرياً على مستوى منطقة الشمال السوري المحرر، وتتحول 70% من هذه الحالات إلى العلاج الدوائي، بينما تحتاج 30% إلى الإخصاب المساعد. الفئات العمرية المتأثرة تتراوح بين 20 إلى 45 عاماً، وكلما تم تشخيص المرض بوقت مبكر، كلما زادت فرص نجاح العلاج بشكل أفضل.
عملية الحقن المجهري (العلاج المجدي)
تعتبر عملية الحقن المجهري من أكثر العلاجات تعقيداً ودقة. تتطلب هذه العملية الحصول على حيوان منوي وبويضة سليمة، ثم إدخال الحيوان المنوي داخل البويضة تحت المجهر، وتركها لعدة أيام قبل إدخالها إلى الرحم المهيأ. تُتابع حالة المريضة بشكل دقيق لمدة لا تقل عن أسبوعين، مما يجعل هذه العملية واحدة من أكثر العلاجات فعالية وأملاً للأزواج الذين يعانون من العقم.
كورونا والعقم
تقول الطبيبة سمية السيخ، طبيبة نسائية، إنه منذ ظهور جائحة كورونا، ظهرت زيادة حالات العقم لدى الرجال والنساء الذين أصيبوا بفيروس كوفيد-19. تظهر الأدلة الأولية أن الفيروس قد يؤثر على عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال وعلى الإباضة لدى النساء، مما يثير تساؤلات حول مدى دقة هذه الظاهرة وتأثيراتها الاجتماعية العميقة.
على الرغم من وجود تقارير تشير إلى انخفاض عدد الحيوانات المنوية لدى الرجال وضعف الإباضة لدى النساء بعد الإصابة، إلا أن العلاقة المباشرة بين الفيروس وهذه التأثيرات لم تثبت بعد بشكل قاطع. فحص السائل المنوي للرجال الذين تعافوا من الفيروس أظهر في بعض الحالات انخفاضاً في الكمية والحركة، ولكن تبقى هذه النتائج مؤقتة وغير مدعومة بدراسات طويلة الأجل.
دعم وتمويل برامج علاج العقم
في ظل الظروف الصعبة، يبقى الأمل والتفاؤل حاضرين لدى الأطباء والمرضى على حد سواء. تظل الحاجة إلى دعم وتمويل برامج علاج العقم في الشمال المحرر أمراً ملحاً، لضمان توفير العلاج المناسب لمن يحتاجونه، وتحقيق حلم الإنجاب للأسر التي تعاني من هذه المشكلة.
من المهم أن تتضافر الجهود لتوفير برامج دعم نفسي واجتماعي للأزواج الذين يواجهون العقم، لمساعدتهم على تجاوز الضغوط النفسية والاجتماعية التي تزيد من تعقيد حالتهم الصحية. يمكن للمجتمع المحلي والمنظمات الإنسانية لعب دور كبير في هذا المجال، من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي وتعزيز الوعي الصحي حول أهمية التشخيص المبكر والعلاج الفعال للعقم.
إن العقم في الشمال السوري المحرر ليس مجرد مشكلة طبية، بل هو تحدٍ اجتماعي ونفسي كبير يواجه العديد من الأزواج الذين يحلمون بالإنجاب. في ظل الظروف الصعبة والتحديات اليومية، يبقى الأمل والتفاؤل هما المفتاح لمواجهة هذه المشكلة، مع ضرورة تقديم الدعم اللازم من المجتمع والمنظمات الإنسانية لضمان توفير العلاج وتحقيق حلم الإنجاب لمن يعانون من العقم.