العملات الافتراضية، الاستثمار في الفراغ

أحمد وديع العبسي

هذا المقال هو مسودة منذ أربع سنوات ترددت حينها في نشره، لأنني بعيد عن المجال الاقتصادي والعملات الرقمية، ولكنني اليوم أنشره كذاكرة عمّا كنت أفكر به كشاب يواجه تغيّر العالم من حوله …

قرأت كثيراً عن العملات الافتراضية منذ أن ذاع صيتها بقوة في العامين الماضيين، وتابعت أسعارها وارتفاعاتها وانخفاضاتها وارتباط ذلك بالزخم الإعلامي حول العملة، وشبكة المستخدمين الكبار التي تحميها، أكثر من ارتباطها بأي قيمة حقيقية يحاول المبرمجون اقناعنا بمنطقيتها.

البيتكوين والريبل والإيثيريوم والليتكوين والداش، وغيرها، تقريبا هناك عملات رقمية تولد كل يوم وبشكل مستمر، والكثير منها يختفي بعد فترة، شأنه شأن أي سلعة لم تسوّق بشكل جيد، أو لم تكن ملبية لتطلعات المستخدمين. ولكن ربما هذه العملات هي الأكثر انتشاراً في الوقت الحالي ..

في البداية علينا أن نعلم أن الدولار كأقوى عملة في العالم هي عملة افتراضية في حقيقتها، لا يساند الذهب حجمها الكامل في العالم، وإنّما تساندها الهيمنة، المتمثلة في (القوة الاقتصادية والاستثمارية والائتمانية والعسكرية) ولعلّ هذا يفسر قليلاً كيفية نشوء العملات الافتراضية وارتفاع قيمتها.

الاستثمار في البداية هو بالفرصة، إن صورة العملة الافتراضية كفرصة لحيازة الثروة هو ما يجعل صغار الكسبة يقامرون على طاولاتها بمبالغ زهيدة تسمح لهم بشرائها، ودخول منصاتها، هذه المبالغ تتحول لمبالغ ضخمة مع كثرة المساهمين، يصاحب ذلك دعم إعلامي جيد من أصحاب رؤوس الأموال الذين يرغبون بالاستثمار، مما يزيد من قيمة العملة يوماً بعد يوم، وكل شيء يخضع سره للعرض والطلب، كثرة الطلب تُسبب ارتفاع سعر العملة، وبالتالي أيضاً زيادة الطلب عليها من أجل زيادة الأرباح وهكذا …

النقطة التالية هو استثمار مالي قوي، يتمثل بدخول الكبار للّعبة (رؤوس أموال كبرى، ومؤسسات تعتمد العملة للشراء) هنا تحدث القفزات النوعية عادة في أسعار العملات الافتراضية، شراء كبير، رفع أسعار، بيع بأسعار مرتفعة، ثم تحقيق أرباح والحفاظ على هذه الدورة الاستهلاكية، كما في تجارة العقارات في المدن الناشئة، ولكن في الحقيقة من يسيطر على أعلى معدلات الربح هم (كبار اللعبة) لأنهم عندما يقررون الخروج ربما ينهار خلفهم كل شيء دفعة واحدة.

ولكن كل العملات التي تسيطر على طرحها شركات منشئة ستبقى مثل أي سلعة، مرهونة لكمية العرض والطلب والمضاربة، وبالتالي إمكانية انخفاض قيمتها بشكل كبير

إن هذه العملات تعمل عمل البطاقات الائتمانية ولكنها لا تخضع لسلطة البنوك وهذا ما يجعل (أصناف من الناس) يقبلون عليها لحاجتهم أحيانا للقيام بتعاملات مالية غير مراقبة (وستنمو ضمن هذا العالم الذي سيبقى يوفر قيمة لها)

ما يهمني هنا الإشارة لأمرين في النهاية تستمد من خلالهما العملة الافتراضية قيمتها

الأولى: هي المقامرة وانتهاز الفرصة للثراء السريع، وهذه نقطة تتقاطع عندها مصالح الأغنياء والفقراء، فالكل يرغب في زيادة قيمة مدخراته ويشتري ويبيع وفقاً لتغير أسعار الصرف، ولكنها في النهاية تبقى مقامرة وإن كانت بشروط لعب مختلفة عن القمار العادية

والثانية المهمة جداً، هو وجود جهات مالية كبرى تدعم أو تستثمر في هذه المنصات، وبالتالي فخسارة المنصة ستعني خسارة كبرى للمستثمرين، مما يجعلهم يزيدون من قوتها وفي الاعتماد عليها لكي تبقى آمنة وجاذبة للمستثمرين الصغار (مصدر الربح) كما يفعل العالم مع الدولار اليوم، الكلّ يعرف إنّه لا قيمة حقيقية له، ولكن إسقاطه سيؤدي لسقوط احتياطات ضخمة في هذه الدول، وبالتالي خسارتها، فهي تدعم الدولار خوفاً على نفسها، ومن أجل زيادة رصيدها من القطع الأجنبي الذي يدعم قيمة العملة المحلية.

هذه اللعبة لا تنتهي عادة بسهولة وتبقى في دورة لا منتهية، ولكن ما يجعلها غير آمنة هو أمرين أيضاً:

الأول: انهيار المنظومات الاقتصادية التي تعتمد العملة وتعمل على تقويتها، أو انسحابها لأسباب خاصة، وتأثير ذلك على العملة وسعرها.

الثاني: المضاربة القاتلة .. من عملات حقيقية أو افتراضية شبيهة لإسقاط العملة ومن خلفها، كما تحدث أي مضاربة في الأسواق العادية ضد منتج معين أو عملة دولة معينة إذا لم تقرر الدولة التي تصدرها حمايتها.

نقطة ضعف أخرى في هذه العملات: تتمثل بأنها ليست عالمية بعد، ولا يمكن للجميع الاستثمار بها، كما أنّها ليست مُعتمَدة عند جمهور المنتجين، وبالتالي التسوّق بها ليس متاح دوماً في كل الدول، بالإضافة لنقطة أخرى شديدة الأهمية، وهي إن هذه المنصات لا توفر حد أدنى لسعر العملة تستطيع معه بيع مدخراتك منها، وإنما هي قائمة على العرض والطلب فحسب، فعندما لن تجد من يشتري، لن تستطيع بيع عملتك بسهولة للاستفادة من قيمتها في سوقك المحلي الذي لا يدعمها.

الجوانب الخفية والغامضة، برأيي هي ما لن يجعل هذه العملة عالمية لأنها لن تنال ثقة الجميع وبالتالي سيبقى مستقبلها محدودا.

يصف العديد من النقاد العملات الرقمية والبتكوين بالتحديد كحالة معاصرة للفقاعة الاقتصادية، ولا بد أن تنفجر مستقبلا. لكن هذا لا يعني بالأساس أنها مشروع فاشل، فالقرن الواحد والعشرون قرن المفاجآت، ولا نعلم متى ستكون مفاجأة البتكوين، هل تنفجر الفقاعة أو تنظمها الحكومات لتصبح عملة عالمية رقمية؟!.

لنرى ما يمكن أن يحدث حتى ذلك الوقت …

أحمد وديع العبسيالإيثيريومالاستثمار في العملات الافتراضيةالبيتكوينالعالم الأسودالعرض والطلبالعملات الافتراضيةالعملات الوسيطة