قبل البارحة كان اليوم العالمي للّغة العربية، والذي يصادف تاريخه في الثامن عشر من شهر كانون الأول من كل عام، وغالباً ما أحاول أن استغل هذه المناسبة لأكتب شيئاً عن قدسية هذه اللغة وإعجازها وجمالها، وعن الهوية الفريدة التي تمنحها لأبنائها من متحدثي العربية، ومن أبناء أمة الإسلام، فاللغة العربية هي لغة الدين الإسلامي، لغة العبادة والقرآن، واللغة المعجزة التي استطاعت أن تعبر عن الوحي بكل امتداداته التفسيرية التي وصفها الله تعالى في كتابه العزيز عندما قال: “وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”
لغة معجزة اختارها الله لكلامه ولدينه ولرسالته الخاتمة إلى البشرية جمعاء، لغة كريمة تصبغ من يتحدث بها بالتكريم، لأنها تعبر بفخامة وعمق عن المعاني، وتستدرج كمالها، فيكون المعنى بلفظها أتمّ من غيره في باقي اللغات وأعمق وأشمل وأكثر بياناً وحلاوة وجمالاً، وكيف لا! وقد اختارها الله لكلامه كما أسلفنا، وبها خاطب الناس إلى يوم القيامة، وبها يتعبد الناس إلى يوم القيامة، وبها تُعلن القيامة ويتحدث أهل الجنان.
لكن أكثر ما لفتني هذا العام هي عبارة نقلها أحد الأصدقاء عن أستاذ جامعي تركي هو الأستاذ (أحمد أكر أقجة) عندما قال في أحد المحافل بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، “سأتحدث الآن بـ اللّغة الأم للأمة”
هذه العبارة الجميلة التي تحمل العربية فوق تعبيرها العرقي، لتجعل العرب قوماً سواءً مع غيرهم من الأقوام بالنسبة للعربية، فلا يتقدمون بها على سواهم، فهي لغة الأمة، لغة دين الأمة لغة القرآن وليست لغة العرب فحسب، وهي مثل هذا الدين، لا فضل فيها لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى. وتقوى العربية فهمها ودراستها وفقهها وعلومها، فمن يعمل لأجلها هو أولى بها من أبنائها، وها هو “سيبويه” الفارسي يتربع على عرش النحو في العربية ومعه في هذا ابن جنّي والزمخشري والفيروزآبادي والجرجاني وابن فارس، وهم أئمة في العربية من غير عرق العرب، ولكنهم ينتمون للأمة ويعملون في سبيل الإسلام، فالعربية عندهم وعند غيرهم من العجم أكرم على أنفسهم وأرواحهم من لغة أجدادهم. وكيف لا وقد اختارها الله ليخاطبهم بها وهم عباده، وهم حريصون على الإنصات لخطاب الله والخضوع له وفهم مراده …
إن العربية بهذا البعد تمثل هوية للأمة، وانتماءً للأمة، وترسم بتعابيرها فضاء الأمة الواسع الذي يمتد حيث يصل الإسلام، هناك في عمق الأرواح ونبض القلوب، لا أحد يستطيع انتزاعه أو معرفة حقيقته وتفسير كنهه إلا من آمن بالله وقال إني من المسلمين.
وهذه اللغة أيضاً “لغة الأمة” هي لغة الحضارة والثقافة والتاريخ والعلم والمعرفة للأمّة المسلمة، التي انتجت بلغتها الأم علوم حضارتها لأكثر من تسعة قرون، لم تتجرأ لغة أخرى خلال هذه الفترة على المساس بقدسية العربية، أو التموضع مكانها، رغم أن الأمّة حكمها غير العرب في كثير من الأزمان.
ولا يمكن لأي ثقافة أو حضارة أن تتعالى على الثقافة العربية الإسلامية، مهما بلغت من التطور والتقدم، ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية شكلت جذور العلوم كافة في عصرها الذهبي، وكانت هي الثقافة الوسيطة التي انتقلت من خلالها ثقافات اليونان والرومان القديمة إلى أحفاد هاتين الحضارتين، وهي في هذا المكان لم تلعب دوراً ناقلاً استطاع قراءة المخطوطات وترجمتها فحسب، فالمسلم في تلك الأيام كان لا يترجم كتاباً إلا بعد شرحه وتطويره والحديث عن اسقاطاته وأماكن الصواب فيه والخطأ وما يجب تركه وما يجب أخذه.
غير ذلك فهذه الثقافة العربية الإسلامية بلغتها ودينها، لا بعرقها العربي، تُشكل هوية وانتماء جميع المسلمين، فلا يمكن لأي ثقافة تنتمي لهذه الحضارة مهما حاولت الاستقلال عنها أن تتعالى عليها، وإن أصرت وفعلت فستسقط لا محالة، لأنها ستبقى بلا تاريخ وبلا جذور، فجذور كل الشعوب المسلمة عربية اللسان إسلامية الروح.
ولا بدّ من التأكيد مرة أخرى على أنّ هذا التفضيل للعربية لا يشتمل تفضيل العرب على غيرهم، فليس العرب وحدهم من أغنى تلك الثقافة والحضارة وإنما المسلمون كافة من مختلف الأعراق والأجناس، والعربية كانت لسانها الذي تنطق به، وأكثر اللغات اتساعاً للعلوم وأقدرها على التعبير عن منجزات هذه الحضارة العظيمة.