اللّغةُ العربيّةُ عمادُ الشخصيّة الغزِّيَّة

ملهم الشريف

▪استهلالٌ و تأصيل:
•…لطالما تكلمتُ في مجالسَ و ندواتٍ و حواراتٍ عن اللّغةِ العربيّةِ و تأثيرِها التفاعليّ المثمرِ في بناءِ الشخصيّةِ العربيّةِ فضلاً عن الشخصيّةِ الإسلاميّةِ الراقية؛ ذلك أنّ اللغةَ العربيّةَ هي الهُويّةُ و مادةُ التأصيلِ و الحضورِ التاريخيّ للعربِ؛ ثمّ للمسلمين عندمـا أُكرمت العربيّةُ بأنْ تكونَ لغةَ الخطابِ الربّانيّ في كتاب اللهِ المعجِـز فَسَمَتْ أيّما سُموٍّ بلغَتْ فيه العربيّةُ ناصيةَ الجمالِ لفظاً و معنىً و إيقاعاً موسيقيّاً جاذباً مفسِّراً للمعاني و الحالاتِ الشعوريّةِ التي يقصدُهـا المتكلّمُ متحدِّثاً كانَ أم خطيباً أم معلّماً أم إعلاميّاً أم مُحاوراً… فإذا بهذا الإيقاعِ الموسيقيّ يتنوّعُ بتنوّعِ المعاني و الحالاتِ الشعوريّةِ العاطفيّةِ التي يُرسلُها المتكلّمُ عبرَ وسيلته التواصليّةِ الأجملِ اللغةِ العربيّةِ، فلكلِّ فكرةٍ و مضمونٍ و عاطفةٍ إيقاعٌ موسيقيٌّ، و أداءٌ يناسبُ تلك المعانيَ و انفعالاتِها ينسابُ -الإيقاعُ- بحِرَفيّةٍ ذوقيةٍ جماليّةٍ لتصلَ المتلقيَ على شكلِ وجبةٍ معرفيّةٍ متكاملةِ الأركانِ فكرةً و عَرْضاً و انفعالاً و أسلوبـاً و إقناعاً يكونُ لها الحضورُ و التأثيرُ في قلوبِ و عقول المتلقِين، و كلما كانَ المُرسِلون من علماء و معلمين و خطباء و قادة و سياسيين و إعلاميين أكثرَ تذوّقاً للعربيةِ، و درايةً بفنونها، و تمكُّناً بأساليبِها كانَ الـتأثيرُ أجملَ و أرسخَ و أعمقَ في التفهيم و الإقناع و التواصُلِ و التعليم …
• فالعربيّةُ هي التي تبني شخصيّةَ الجيلِ، وترتقي بطموحِه، وتهذِّبُ نفسَه، وتعزّزُ جوانبَ القـوّة في الشخصيةِ وتصقلُها، وتراعي جوانبَ الضعفِ فتجبرُها وتقوّيها، وتمدُّ شخصيةَ الجيلِ من أبنائنا -ذكوراً و إناثاً- بنسغٍ من القِيَمِ و الآدابِ السلوكيّة، فلا غرابةَ مطلقاً أنْ نرى الشخصيةَ التي طابتْ بالعربيّة تعلُّمـاً وتعليماً وتربيـةً قد فاحتْ منها زاكياتٌ من عَبَقِ المروءةِ والصدقِ والشجاعةِ والجرأةِ والثبـات والحياءِ والأدبِ، إضافـةً إلى الاتّـزانِ والحكمـةِ والوعي والنُّضجِ الفكريّ و براعةِ التحليل و التواصُلِ و الخطاب.. فإذا بالشخصيةِ التي نهلتْ من مَعينِ فنونِ العربيةِ هي شخصيّةٌ متّزنةُ لا سفاهةَ تحكُمُها و لا طيشَ يُزري بها. و إذا ما قُرنتِ العربيةُ بالإيمـان -قرآناً و سنّةً و سيرةً و تربيةً- فقد بلغت شخصيةُ الجيلِ غايةَ الكمـال البشريّ الفِطريّ رفعـةً و هِمّـةً وَ تجاوزاً للسفاسفِ وَ بعداً عن الانحرافِ وَ توقاً إلى الإنجاز و العمل… عندهـا تتجلّى شخصيةُ المسلمِ -رجلاً و امرأةً- الذي حملَ الرسالةَ فأدّاهـا بثباتٍ إيمانيّ لا ينالُ من قضيتِـه أحد.
• و إنّ هذه الدورَ الإحيائيّ للغةِ العربيةِ في إعدادِ شخصيةِ الجيلِ كانت الشغلَ الشاغلَ لأعلامِ أمّتنـا الذين جعلوا العربيةَ قضيتَهم، و نشرَهـا واجباً رِساليّاً يحافظُ على هُويّة الأمّة و يعززُ بُعدَها الحضاريَّ بِجَعلِ شخصيةِ الجيلِ وثيقةَ الانتمـاءِ لأمّتها و قِيمِها و أخلاقِها و ثوابتِها؛ تصونُهـا و تدافعُ عنها فلا تنساقُ وراءَ سلوكٍ نفعيٍّ “برغماتيّ” فرديّ على حسابِ هُويّةِ الأمّةِ و لغتِها و حضارتها.
و هذا ما حدا بأعلامِ و علماءِ و مفكّريّ الأمّة للوقوف سدّاً في مواجهة حملاتِ “التتريك” الهادفةِ لوأدِ العربيّة في بلادنا العربيّة أواخرَ الحكم العثمانيّ إبّانَ ضعفِه و سيطرةِ التيار الليبراليّ المتمثل بجمعية الاتحاد و الترقي، ثم مواجهة حملاتِ نشرِ اللغة الفرنسية (الفَرْنَسة) على حساب العربيّةِ لغةِ الهويّة و الانتماء في سورية و بلاد المغرب العربيّ لاسيما الجزائر و المغرب حيثُ كانَ لأعلامِ تلك الحِقَبِ مبادراتٌ فاعلةٌ في الدفاعِ عن العربيّة و الذودِ عنها بمواجهة مخطّطاتِ السُّلطات الحاكمةِ كأمثال العلماء الأئمة روّاد النهضة العاملين (طاهر الجزائريّ وَ بدر الدين الحَسَني وَ محمد كرد علي وَ خير الدين الزِّرِكْليّ وَ محمد علي الدَّقَر و عبد الغني الدقر و محمد علي الطنطاويّ و عبد الحميد بن باديس وَ محمد الطاهر بن عاشور….) لأنهم يرَونَ نشرَ العربيّـة من الأعمالِ الجليلةِ التي تنهضُ بالأمّة، و تعمرُ الوقتَ فيقول “البشير الإبراهيمي” في عيون البصائر:
“ما قيمةُ الـعـمـرِ إذا لم تنفَـقْ دقائقُه في: تحصيلِ علـمٍ، و نصـرِ حقيقـةٍ، و نشـرِ لغـةٍ و نفـعِ أمّـةٍ، و خـدمـةِ وطـن”

 

▪العربيّةُ لُغةُ العزّة الغزِّيّة:
• و هذا ما أدركَه المربّي المؤسّس (أحمد ياسين) بفكرِه الناضجِ و رؤيته الحضاريّةِ لحقيقةِ الصراعِ الذي لا ينفعُ في مواجهتِه إلّا تعميقُ البُعـدِ التربويّ في المجتمعِ الفلسطينيّ عامّة و الغزِّيّ خاصّةً؛ هذا البُعد التربويّ الذي أقامَه القائدُ المؤسِّس على ركيزة جامعة توحّدُ و تبني؛ ألَا و هي اللغةُ العربيّة بقِيمِها و أصالتِها و سِحرِ بيانِ حكمتِهـا و آدابهـا الناهضةِ على أرضيةٍ إيمانيّةٍ خالـصةٍ؛ هي الـروحُ المحرّكة المنعِشةُ لتلك اللغـة..
• لقد توجّه المفكّر المربيّ “أحمد ياسين” و رفاقُـه (إبراهيم اليازوري وَ محمد شمعة وَ عبد العزيز الرنتيسي وَ صلاح شحادة وَ عبد الفتاح دخان وَ عيسى النشّار …. وَ طائفةٌ كبيرة من المربّين) إلى المجتمعِ الفلسطينيّ عامّة حتى في مخيمات الشتات التي جمعتْهم لغةٌ أحيتْ في النفوسِ قضيتَهم قضيةَ فلسطين و الأقصى و بيتِ المقدس فكانت ذا بُعدٍ رِساليّ استطاعَ أنْ يخاطبَ المجتمعَ بعمومِه على تفاوتِ شرائحِه الاجتماعيّة حتى تجاوزتْ رؤيتُه الإصلاحيةُ التربويّةُ كوادرَ حماس بجناحهـا الفاعل القسّام و قيادتِها الفكريّة و الإداريّة لتعمَّ مجتمعَ غزّةَ كاملاً، و هذا ما نراه واقعاً عمليّاً مع انقصاء الشطرِ الأولِ من الشهر الثالث في الحدثِ التاريخي المفصليّ “طوفان الأقصى [7 أكتوبر 2023]” فقد عاينَ العالَمُ و سمعنا جميعاً لغةً عربيةً سليمةً بعيدةً عن التكلُّفِ و التقعُّرِ تخرجُ بسلاسةٍ من كافة كوادرِ المجتمعِ الغزّيّ الذي تربّى في مدرسة القِيم و الرسالة بغضِ النظرِ أَنتمى لحماس أم لم ينتمِ.. فإذا بنـا نسمعُ الطبيبَ مديرَ المستشفى الفلاني أو المتحدثَ الحكوميّ أو رئيسَ فريقِ الدفاع المدنيّ أو متطوعي العمل الإنسانيّ.. إذا ما أُجريتْ مع أحدهم مقابلةٌ عبرَ القنواتِ الفضائيّةِ و منصّاتِ التواصُل يتحدثُ مُجيباً و مُحاوراً بلغةٍ عربيةٍ رصينةٍ بكل ثقة و سلاسة دونَ إغرابٍ في اللفظ و غموضِ في المعنى .
• أمّا الإعلاميون و صحفيُّو الوكالات الإخباريّة فكانت لغتُهم واحدةً بألفاظها و مضامينها و انفعالاتِها تنطقُ نابضةً بروحِ الانتماءِ للقضيّةِ و أهلها بكل جرأة و ثباتٍ لا يعتريها خوفٌ أو جَنَف! حتى غدا موقفُ الإعلاميين الغزّيّين أمراً مبشِّـراً لافتـاً لانتباهِ المتابـعِ لـحَدث الطّوفـان؛ حيثُ تجلّت وحـدةُ الـرؤيةِ الإعـلاميّةِ لجميـع إعلاميّي غـزةَ و صحفييـهـا على تنوُّع الوكالات و المحطّات و المؤسسات الإعلاميّة التي يعملون لحسابها؛ فالجميع -من غيرِ استثناء- يتكلمُ بلسـانِ القضيـة و يعبّـرُ بروحِه عن الرؤية المرحلـيّـة و يدور بخطابـه في محاورِ أهدافِهـا؛ و أكادُ أجزمُ أنّ هذا الأمرَ من صميم الإعدادِ الفكريّ و التوعويّ و الإيمانيّ الذي سبقَ معركـةَ الطوفان لذلك نراه جليّـاً في مواقـفَ و خطابِ و بطولـةِ الإعلاميين الذين أدركوا مهمّتَهـم و الثغـرَ الذي يقاومونَ منه، فالتحمـوا مع قضيتهـم و مجتمعِهـم و أهليهـم و رجالِـهـم و قادة مقاومتهـم.
• و إذا ما أجَلْنا أنظارنـا في لقطة سريعةٍ للشخصيات القياديّة داخلَ حماس و جناحِها الضارب القسّـام فإنّنا لَنلمحُ سماتٍ نتفرّسُها في جميع شخصياتِ القادة من خلال حواراتِهم و أحاديثهم نُوجزُهـا في قوةِ الشخصية، وَ رصانةِ الفكرةِ، وَ سلاسة العرضِ، وَ وضوحِ المعاني وَ جمالِ البيانِ الذي يتجلّى في حواراتِ و خطاباتِ و أحاديث القادة الذين صقلت العربيةُ شخصياتِهم و أرواحَهم و قلوبَهم فكانَ اللسانُ دليلاً ناطقاً عن كُنهِ جوهرِهم؛ و لَكم أنْ تستمتعوا بعربيّة “الدكتور عبد العزيز الرنتيسي” خطاباً و حواراً، و المؤسّسِ المربي “أحمد ياسين” في محاضراته و حواراته، و القادة المفكّرين “صلاح شحادة وَ أحمد الجعبريّ وَ محمد ضيف وَ محمود المبحوح وَ سعيد صيام …” إضافةً للسياسيّ المفوّه “خالد مشعل”..و إذا ما وصلنا إلى الناطقِ العسكريّ الذي أحيا الأمّة و أطربَ القلوبَ بأنغامِ لغتِـه التي أحبّها و صافَاها الودادَ حتى وصلَ مقامَ التذوّق اللغويّ الذي استوعبَ حدودَ النحوِ وَ القواعدِ الجامدة فبلغَ الأصالةَ اللسانيّةَ بإيقاعِ حروفِها، و جمالِ موسيقاها، و دقةِ معانيها؛ فإذا بلغةِ بياناتِه العسكريّة و لغةِ جسدِه تجذبُ الأطفالَ قبلَ الكبار و الغربَ قبل العرب و هو يسردُ الأحداثَ و يحلّلُها و يناورُ العدوَّ بكلماته و بيانِ لغتِـه الثابتةِ لهجةً و إيماناً.
• لقد استطاعتِ العربيّةُ أنْ توحّدَ الرؤيةَ و الخطابَ و الانفعالَ في وجدان جيلِ طوفان الأقصى لتكونَ لغةَ الإعـلام و التوثيق و الخطاب و المقاومة لجيلِ الطوفان على أرضِ غزّةَ؛ جيلٍ من المربّين و المربّيات و القادة و الأمهات و الأطباء و الإعلاميين و المقاومين؛ جيلٍ من المستقبل الذي بناه و أسّسَ له المربي المفكّر “أحمد ياسين” الذي تمحورت رؤيتُه في كلمته الجامعة التي شخّصتِ الصراعَ و قدّمتِ العلاجَ بقوله:
“نحنُ و الآخرون في صراع مـع الجيـل؛ مَـن ينتـصـرْ في معـركة الجيـل ينتصـرْ في معـركـة المستقبـل”

الشيخ أحمد ياسيناللغة العربية الفصحىاللغة العربية وبناء الشخصيةاللغة والهويةاليوم العالمي للغة العربيةغزةفلسطينملهم الشريف