لقد أعاد طوفان الأقصى معه القضية الفلسطينية إلى الواجهة العربية والعالمية من جديد، وبعث فينا كمسلمين روح العروبة والمقاومة، وأعاد تذكيرنا بعد سنوات من النسيان بأن مقدساتنا مغتصبة، وأرضنا محتلة، من قبل محتلٍ أظهر الغدر للمسلمين منذ النشأة الأولى للإسلام، وما يزال في صراع دائم مع المسلمين. صورة ظهرت أمامنا وأمام أجيالنا، بعد أن انقشعت عنها تراكمات ضخمة من التفاهات وضياع الهويات والحرب الإعلامية العالمية، والتناسي المقصود لحقنا المسلوب بالأرض العربية الفلسطينية.
ومن أهم ما ظهر من هذه الصورة بوضوح “حقيقية المرأة المسلمة ودورها في مجتمعها” فسطرت في فلسطين على مرّ التاريخ أهازيج النصر منذ النكبة الفلسطينية الأولى عام ١٩٤٨م وإلى الآن خلال أحداث طوفان الأقصى، مروراً بكل الانتفاضات والمعارك ومراحل النضال والكفاح.
كان مشروع المرأة الفلسطينية واضحاً منذ البداية وهي تقدم نفسها وأولادها واحداً تلو الآخر في معارك التحرير ومواقف البطولة، وليس هذا بغريب عليها، فهي من قرأت ووعت وأحيت من جديد قصص روتها الأمهات لأولادها جيل بعد جيل عن النساء الخالدات في تاريخ الإسلام، وهي التي سمعت بقصة السيدة صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها التي قتلت يهودياً يوم الخندق، حين تسلل إلى حصون النساء، وجعلت رأسه يتدحرج على السفح إلى أن وصل إلى أسفله بين يدي اليهود ليقذف الله الرعب في قلوبهم ويظنوا بأن الحصون يحميها رجال المسلمين، وهل يظن العدو بأنه إذا اقترب من أرض وعرض وعقيدة ستكون خاوية على عروشها … ألف لا … بل ستكون جميع مكونات الأمة الإسلامية بما فيها النساء على مختلف الجبهات من قتال وتعليم وتربية وتنشئة …
وها هي السيدة أم عمارة رضي الله عنها تقف في أرض المعركة يوم أُحد تُدافع هي وزوجها وابنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انكشف للعدو … ترى ابنها جريحاً فتضمد جرحه وتقول له: (قوم يا بني وجالد القوم) وتخرج هي بجرح غائرٍ في جسدها، وهي تُحَلِق فرحاً بدعوة رسول الله لها ولعائلتها (اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة ) وكأنها تعلم أن الفرصة لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر، فربحت وانتصرت حينها وقالت: (ما أُبالي بعد ذلك ما أصابني في الدنيا).
وها هنّ المسلمات اليوم يرون الأقصى مسرى رسول صلى الله عليه وسلم يتيماً مدنساً بيد اليهود، فيدافعن عنه بأنفسهن وعوائلهن لتطهيره رغم الجرح المستمر لأكثر من خمس وسبعين سنة، والمرأة الفلسطينية موقنة بأن الأجر سيصل إليها وسيبارك الله عملها.
قضت 4 آلاف شهيدة على الأقل خلال الأحداث الأخيرة في غزّة، كل واحدة منهن ودّعت غزة وتركت خلفها الأطفال الذين رضعوا لبن المقاومة والصمود واستعدوا للانطلاق على درب الشهادة. في أرض محاصرة كانت بعيون أهلها مكاناً يُرى فيه تخاذل الإنسانية أجمع. اختلط دمها بالنار وبكاء صغارها بصوت الرصاص وأنينها بزغاريد الشهادة. ومن بين تلك الشهداء كانت الشاعرة الفلسطينية هبة أبو ندى تنقل حجم المأساة بحروفها قبل استشهادها قائلة: (الأمر كالتالي كلنا في حقل مفتوح سنابل منهكة من الحصار، والموت يحمل منجلاً ضخماً ويلوّح به علينا يميناً ويساراً، كلنا نموت والحقل يفرغ منا والسنابل تتطاير).
في مكان آخر تقف أمٌ غزية أمام جثمان ابنها الشهيد وتحمل قطعة من ثيابه تشمها وتضمها كما كانت تشمه وتضمه صغيراً في الدنيا، ويرسما معاً كل يوم آمالاً وأمنيات تحت سقف وطن وعلى تراب أجداد، لتراه اليوم شهيداً بعد أن دمر الاحتلال كل شيء حتى أحلام أطفالها لكنهم في النهاية ظفروا بما هو أهم وأغلى (الشهادة) … وقفت وحيدة تواسي جرحها بصرخات (والله مسك ياالله صبّر قلبي ياالله وأنا حمداك وشكراك ياالله …خليني أرى وجهه) …
أهل غزو ليسوا أرقاماً، فوراء كل رقم أمٌ وأخت وزوجة وشهيدة وقصة طويلة من الإيمان والكفاح. فما أشبه اليوم بالأمس، أمهات ربّت فأحسنت التربية ،وكأن كل امرأة في الإسلام واقفة على ثغر من ثغوره، تنافح عنه بما أعطاها الله من القوة والصبر إلى جانب الرجال، كن ومازلن كجبال راسخات، يشكلن عمود التحرير وينسجن من المأساة تاجاً على جبهة التاريخ، مأساة نُسجت بدم الشهداء وستبقى تُنسج حتى تُلبس الأقصى ثوب التحرير.