المساواة الشاملة.. دمج المساواة بالإنصاف

أ.عبد الله عتر

 

حين شرح مفسرو القرآن معنى العدل والميزان في سورة الشورى؛ كشفوا عن طريقة فريدة للتفكير بالمساواة، تسكن داخل القاعدة الذهبية: “العدل هو التسوية والإنصاف” (الواحدي، والقرطبي، والبغوي، وابن الجوزي)، مقاربة العدالة بوصفها مساواة وإنصافًا تُوسِّع نطاق الرؤية في بلد يناضل شعبه لبناء مستقبل ملوَّن بالعدالة، وتساعد أن نجيب بدقة أكبر عن سؤال: “المساواة في ماذا؟” و”بناءً على ماذا؟”. سأطرح في هذه المقالة مفهوم “المساواة الشاملة”.

عائلتان للمساواة

ينتسب مفهوم المساواة لعائلتين مختلفتين من القيم؛ العائلة الأولى تتميز بالثراء والسعة وتضم الإنصاف والحرية جنبًا إلى جنب مع المساواة، ونجد الارتباط الوثيق بين المساواة والعدالة، تحتفي عائلة المساواة هذه بالتنوع والاختلاف وتحميه، دون أن تسعى لمحوه أو عدّه بحكم العدم، وتحذر من إهدار الخصوصيات وتهميشها بغية تحقيق التماثل المطلق الحرفي.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام اضغط هنا

أما العائلة الأخرى فهي عائلة أحادية الفرد تستبد فيها “المساواة” بكل شيء وتنفصل عن العدالة، وتكون مهمة المساواة هنا تقرير قوانين وحقوق والتزامات واحدة على الجميع دون اهتمام كافٍ بالاختلافات القائمة، حيث يحتفي هذا المفهوم بفكرة التماثل والتشابه.

ينتمي مفهوم “المساواة الشاملة” إلى العائلة الأولى، وهي مساواة شاملة من حيث إنها تشمل طبقات المساواة ومجالاتها المختلفة، هذا الشمول مستند بشكل جوهري إلى الحرية والإنصاف والتعاون وانفتاح المساواة عليها، ينعكس هذا عمليًا على وجود ثلاث طبقات للمساواة مرتبة بحسب الأولوية: مساواة التطابق، مساواة التكافؤ، مساواة التوازن.

اقرأ ايضاً:  روسيا تدين الغارات الأمريكية.. وبايدن يبدأ بأصغر الأهداف

الطبقة الأولى: مساواة التطابق.

في هذه الطبقة من المساواة تتساوى الحقوق والواجبات بين الناس بشكل حرفي وتتماثل في الشكل والمضمون دون أي تمييز، وإذا استخدمنا تعبير الفقهاء والمفسرون عن هذه الطبقة فهي المساواة في أصل الحق ووصفه، أو مساواة العين بالعين، فكل ما وجب لشخص وجب لآخر بالمقدار والوصف نفسه (الزمخشري، وأبو حيان، والزركشي، وابن عاشور).

المثال المشهور عن مساواة التطابق أن يساوي الأب في هدية أبنائه، فيعطي كل واحد منهم الشيء والمقدار نفسه، فهي مساواة في أصل الهدية ومساواة في صفاتها ومقدارها. وفي هذه الطبقة نجد الشريعة تقرر مساواة التطابق بين الرجل والمرأة في ملك المال والتصرف فيه، فعقود البيع مثلاً لا يوجد فيها أي تمييز مبني على بالذكورة أو الأنوثة.

القاعدة المهمة هنا أن مساواة التطابق هي الأصل العام في الحقوق والواجبات بين الناس، حيث نصَّ الفقهاء أن “المساواة في سبب الاستحقاق توجب المساواة في الاستحقاق نفسه”، وأكدوا أن هذا هو “الأصل” (السرخسي، والكرابيسي، والمرغيناني، والزيلعي، وابن الهمام، وابن نجيم، وابن عابدين)، فإذا تساوى شخصان في سببٍ موجِب لاستحقاق شيء فيقتضي ذلك المساواة بينهما في المقدار المستحَق. مثلاً؛ حق الملكية ثابت للرجل والمرأة بالتساوي دون تمييز؛ لأنهما متساويان في سبب الملكية وهو الآدمية\الإنسانية، فإن الإنسان “بالآدمية يتمهد للملك” (ابن قدامة).

هذه هي الطبقة الأصلية في بنيان المساواة، حيث يتطابق فيها التساوي والإنصاف دون تعارض، وهذا المفهوم للمساواة هو الذي يحكم التوجه العام في تنظيم شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فلا نحتاج دليلًا يثبت المساواة بين الرجل والمرأة في حق التعليم، لأن هذا هو الأصل، ولا نحتاج دليلًا يثبت حق المرأة في التصرف بأملاكها دون إذن أحد، لأن هذا هو الأصل، وهكذا..

الطبقة الثانية: مساواة التكافؤ

في هذه الطبقة تتساوى الحقوق والواجبات بين الناس في أصلها لا في وصفها ومقدارها، فهي مساواة في المضمون فقط لا في الشكل. ثمة مثال مشهور في التفكير الإسلامي يتحدث عن والد لا يملك سوى رغيف خبز واحد وعنده ولدان، فكيف يقسمه؟ كان الحل أنه يفضه عليهما بحيث يسدّ من جوعة أحدهما ما يسدُّ من جوعة الآخر، فإذا كان ثلث الرغيف سادّاً لنصف جوعة أحدهما، وثلثاه سادّاً لنصف جوعة الآخر فليوزعه عليهما كذلك، لأن “هذا هو الإنصاف، حيث سوَّى بين المُنَفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم” (العز بن عبد السلام). فأصل الحق متماثل وهو سدّ الجوع، لكن وصف الحق ومقداره مختلف، وهو ثلث رغيف أو ثلثان، فإن ثلث الرغيف يكافئ ثلثا الرغيف في سد الجوع.

ما الذي حصل في هذا الطبقة بالضبط؟ لقد أصبحت المعطيات معقدة لدرجة أن مسالك المساواة الظاهرة انفصلت عن مسالك العدالة والإنصاف، فأوجب هذا أن نغوص أكثر وننتقل من ظاهر المساواة في الكميات والمقادير والموارد، إلى عمق المساواة في الهدف والمغزى من تلك الموارد، مثل التساوي في تلبية الاحتياجات والقدرات. فالذي حصل بالحقيقة أن سؤال: “المساواة في ماذا؟” اكتسب هنا جوابًا جديدًا، ففي الطبقة الأولى كانت المساواة في الموارد والمقادير الظاهرة، أما في الطبقات الثانية فقد أصبحت المساواة في الغاية والمغزى ونوعية العيش التي سيحصل عليها كل واحد.

متى ننتقل من المساواة الأولى إلى الثانية؟ لعل المؤشر الأكثر أهمية هو وجود اختلاف واضح بين الناس في أمور معينة يجعل المساواة الظاهرية بينهم تلحق ضررًا وحرجًا زائدًا بالبعض، أو يمنعهم من تحويل الكسب إلى رزق بشكل متساوٍ، حسب تعبير (الغزالي، وابن خلدون)، أي أن بعض الناس لا يتساوون مع الآخرين في قدرتهم على تحويل الموارد إلى منافع فعلية متساوية، في قصتنا السابقة فإن الكسب المتساوي “نصف رغيف” لا يسدّ جوع الولد الثاني بينما يسدّ جوع الأول، حيث اختلف مقدار المنفعة المتحققة رغم تساوي مقدار الموارد، فيتم تفضيل بعض الفئات والأشخاص لتعويض نقص أو اختلاف طبيعي أو اجتماعي موجودة عندهم.

قد يكون سبب الاختلاف “طبيعي” متعلق بالخِلقة أو “اجتماعي” متعلق بترتيبات المجتمع وعاداته، في كلتا الحالتين ينبغي الانتقال أو التفكير جديًا بالانتقال من المساواة الأولى إلى الثانية. من الأمثلة البارزة في الفقه الإسلامي أن قتال العدو واجب على النساء والرجال، لكن شروط وجوبه على الرجال تختلف عن شروط وجوبه على النساء، فلا يجب على النساء إلا ضمن حالات معينة، مثل أن يهجم العدو على البلد مباشرة، والسبب هو اختلاف الكفاية البدنية القتالية بين الرجل والمرأة، ولذلك خفف عن النساء، فأصل الواجب متساوٍ وهو القتال، لكن وصفه وشروطه مختلفة لسبب طبيعي متعلقة بالخلقة، ولو كانت المساواة هنا مساواة تطابق تام لألحق حرجًا زائدًا بالنساء.

واجب تربية الأولاد مثال نموذجي عن الاختلافات الاجتماعية، فالتربية واجب على الأب والأم، لكن طريقة التربية وصفاتها مختلفة عادة، وكذلك تزين الرجل والمرأة كل منهما للآخر مطلوب، لكن طريقة التزين تختلف عادة. ونحن نتحدث اليوم عن مقاعد تخصص للنساء في البرلمان أو الوظائف الحكومية، هذا التخصيص لمعالجة خلل اجتماعي يجعل النساء بعيدات عن صنع القرار العام، وهنا يدخل جزء مهم من سياسات التمييز الإيجابي.

الطبقة الثالثة: مساواة التوازن

في هذه الطبقة تكون هناك حقوق مختلفة غير متساوية لا بأصلها ولا بوصفها، لكنها تتقابل في المحصلة الإجمالية وتتوازن، فالمساواة في هذه الطبقة تبلغ أقصى اتساعها وعمقها، حيث ترصد المساواة بين حقوق والتزامات متقابلة في أنحاء متباعدة، وهذه تستلزم منظورًا كليًا يمكنه أن يرى توازنات أكثر غموضًا لكنها أكثر إنصافًا. لعل المثال البارز في قضايا الأسرة هو توازن النفقة والميراث، فقد رصد الفقهاء منطق المساواة التقابلية حين شرحوا أن اختلاف مقدار الميراث بين الأخ والأخت لصالح الأخ، إنما هو بسبب اختلاف مقدار النفقة لصالح الأخت، حيث يجب على الأخ أن ينفق على أهله ومن تلزمهم نفقته، بينما لا يجب على الأخت أن تنفق على أحد.

ولعلّ السبب في هذا الترتيب هو مراعاة تركيبة طبيعية اجتماعية متجذرة في عمل النساء، فالأطفال لا يزالون أكثر تعلُّقًا وحاجة للأم خاصة في السنوات السبع الأولى، وحين تعمل المرأة في السوق تظل تتحمل أعباء أكبر من الرجل الذي يعمل، كما أن إمكانية استغلال المرأة في سوق العمل عادة ما تكون أكبر بكثير لأسباب مختلفة، والحوادث التي تنكشف كل سنة عن الانتهاكات التي تعاني منها الموظفات في مؤسسات الأمم المتحدة إشارة بسيطة عمَّا يجري. تقتضي هذه الوضعية منح المرأة مزيد من حرية العمل المنتج اقتصاديًا، فلا تُلزم به ولا تُمنع منه، فلها أن تشترط العمل في عقد الزواج أو يحق لها أن تعمل ولو لم تشترطه كما لو كانت تعمل أصلاً قبل الزواج.

تعقيد المعطيات يحتاج الغوص عميقًا لرؤية طبقات من المساواة أكثر إنصافًا وضمانًا للحريات، هذا التفكير بالمساواة جريء ومغامر، لأن إمكانية استغلاله وحرفه عن مساره واردة، فبحجة الانتقال من مساواة التطابق إلى مساواة التوازن قد يحصل تمييز مبني على أسس واهية لا تحقق التوازن في المحصلة، كما أن الجمود على مساواة التطابق قد يُلحق الظلم بفئات كبيرة من الناس، لذلك يجب التأكيد أن الأصل العام هو مساواة الطبقة الأولى “التطابق”، ولا يتم الانتقال إلى طبقات المساواة الأعمق إلا بوجود مبرر واضح ومقنع أن يضمن الإنصاف بدرجة أكبر.

 

 

الإسلامالإنصافالعدالةالمساواةسوريا