المشهد السوري، تعقيدات متزايدة ومواجهات هامشية

أحمد وديع العبسي

منذ أمد بعيد نسبياً ولا وضوح في المشهد السوري لا سياسياً ولا عسكرياً ولا ثورياً كما يحب البعض، وفي كل مرّة، كنّا نحاول دفع العجلة المتعثرة لما بعد أحداث معينة علّها تلقى انفراجاً ما. فمرة لما بعد القمة العربية، ومرة أخرى لما بعد الانتخابات الأمريكية، ومرة ثالثة لما بعد الانتخابات التركية، ومرة رابعة لما بعد الحرب الأوكرانية ومرة خامسة لما بعد حرب غزّة، … ومرّة ومرّة ومرّة … وفي كل مرّة من المرّات نكتشف أننا لم نحرك العجلة إنشاً واحداً ولا حتى في مخيلتنا المتعبة، ونبدأ بالبحث عن حدث جديد لنستجدي أن تنزلق عجلة الحل السوري بعده، ولكن دون فائدة …

مع الوقت نكتشف أننا نقف أمام عربة محطّمة وبدون عجلات، وأنّ الأحداث التي نحاولُ سرج العربة بها لتتحرك، لم تكن معنيّة بنا أو بعربتنا أبداً، ولم تكن قريبة منها لتساهم في دفعها، وأنّ (الأحصنة) التي ينبغي أن تُسرج العربة بها ليست سوى ظهورنا المثقلة من ضربات من يقفون حول العربة ويسرجوننا لغاياتهم الخاصة.

في 1 تموز حدث ما يشبه (انتفاضة) ضد ممارسات الحلفاء والأشقاء ومن يمثلهم من السوريين، وأسباب هذه الانتفاضة كانت واضحة ولا تحتاج جهد كبير لاكتشافها، فالسوريون يعيشون في واقع متعثر، ومستقبل مغيّب، وآفاق بعيدة لا يمسكون منها بأي طرف، بالإضافة لإعادة نمو الاستبداد تحت أعينهم من قبل أشباه المؤسسات في المعارضة والمسؤولين عنها من الشركاء!

المصارحة قاسية ولكنها ضرورية، بمثل هذه الكلمات البسيطة حاول الشارع أن يلفت انتباه من يتولّون أمره وشؤونه. والصلف والتكبر والتجاهل وإنكار وجود المشكلات سيزيد تأزّمها ولن يُسهم في حلّها مطلقاً، ومهما كان الناس متعبون لاهثون وراء لقمة عيشهم فلن يمنعهم هذا من الانتفاض في وجه من يرونه سبباً في ذلك، خاصةً عندما يصلون لمرحلة (خربانة وخربانة)

لا أريد أن أسهب في سرد المشكلات، فهي معروفة لدى الجميع لا تبدأ عند التعالي وتحديد مصالح الناس من قبل الآخرين والتدخل في مختلف النواحي المدنية والعسكرية من الجيران، ولا تنتهي عند عجز مؤسسات المعارضة عن طرح أي حل أو رؤية أمام الناس أو حتى مصارحتهم بالحقائق ومخاطبتهم بشكل مباشر، بدل تضييع الوقت في محاولات عبثية للإمساك بأي خيط رفيع للأمل من خارج البلاد، ناهيك عن مشاركة بعض هذه المؤسسات جهاراً نهاراً في الفساد والاستبداد ومصادرة الحريات والخطاب المتكبر والمتعالي المدعوم بالعسكر والأسلحة أحياناً في وجه (الثوار)

رغم أني لا أحب عقلية الثوار وغير قادر على مجاراة نزقهم المستمر، ولكن من يتصدى للشأن العام عليه أن يكون مُتفهماً وواعياً لهذا النزق والعقلية المتشبثة بالمُثل، والعصيّة على المرونة والتفاوض أحياناً، وعليه أن يفهم أنّها أصبحت بعض طباع هذا الشعب ويجب العمل على تغييرها بهدوء، لا الصدام معها، وهذا التغيير يجب أن يرتكز إلى إنجازات حقيقية في طريق الثورة، لا في تجاهل مطالبها وإعادتها إلى النقطة التي بدأت منها مراراً وتكراراً، فهذه العودة مُتعبة جداً لجميع الأطراف.

من المهم الإشارة إلى أن استخدام تاريخ الأول من تموز ليس اصطفافاً لا من المقال ولا صاحبه إلى جانب الحراك المتعلق به (اعتصام الكرامة)، الذي يجب أن يحترمه الجميع كما يتم احترام أي حراك سوري في كل مكان، لكنه إشارة إلى النقطة التي بدأت الأمور عندها بالخروج عن السيطرة، هذا الخروج الذي يرسم تعقيدات جديدة في المشهد السوري للمعارضة غير المنسجمة بما يكفي، وربما يتطور لصراعات داخلية لا تكون إلّا في صالح العدو إن لم يتم ضبطها والتعامل معها بعقلانية من قبل الجميع، والجميع هنا مؤسسات رسمية وشعبية وحراكات وفصائل عسكرية وحلفاء، الجميع تماماً، كل من يتصدى للشأن العام أو يسعى لصلاحه أو يريد النصح له.

على مؤسسات المعارضة أن تعرف أنها من أوصل الناس إلى هذا القدر من العناد والمزاودة، فالتجاهل المتكرر لمطالبات الناس بالإصلاح، والتجاهل لمصارحتهم، وتركهم يستقون معلوماتهم دائماً من مصادر غير رسمية تعتمد تحليلات قراءة الفنجان والإثارة، والتلميح المتكرر بالعجز عن الإصلاح والتغيير، والاستغناء حتى عن مجرد المحاولة، والنخبوية المفرطة في النظرة للجمهور عند البعض، وعم الاستجابة لطرق الأبواب المتكرر من أجل التغيير، هو ما دفع الناس إلى تلك الحدود من الرفض والإسقاط للمؤسسات، فالخروج عن المنطق أحياناً هو الطريقة الوحيدة للحديث مع من يدعون احتراف الخيارات المنطقية، والإرباك والمفاجأة هي لغات محتملة لتجنب مزيد من التجاهل.

وكما يجب أن تدرك المؤسسات الرسمية أخطاءها، وتسعى للإصلاح والتغيير، على الحِراكات الشعبية أن تعي أن تكرار مدخلات الماضي لن يعود بالفائدة المرجوة، وأن الإصرار على التعالي الثوري أيضاً تجاه الناس والمؤسسات، وادعاء الأحقية في كل شيء، وتخوين من يرفض هذه الحراكات، أو لا ينتمي لها أو لا تعجبه أساليبها وكل مطالبها، هو ذهاب لصدام لن يستفيد منه أحد، ولن يحقق أي تقدّم، فالبحث عن الحل هو الطريقة المثلى لإيجاده، بينما البحث عن المذنب لا يتعدى حالة انتقامية بأفضل أحواله.

كما أن فهم التعقيدات الدولية والمشهد السوري الخارجي والداخلي والممكنات والفرص والتحديات، هي بوابات أساسية لصناعة أي تغيير مرتجى في المرحلة القادمة، أمّا إطلاق الشعارات والذهاب نحو إجراءات غير مجدية فقط لأنها تنتمي لكتيب تعليمات الحلول المعلّبة، فهذا أيضاً سيكون تصرفاً أحمقاً من أي طرف يتبنى هذه المعادلة.

يحتاج إنجاح التغيير تضافراً كبيراً في البنية الداخلية لجمهور الثورة ومؤسساتها، لأن أيّ شرخ في هذه البنية هي فرصة مواتية لأعداء متربصين قريبين وبعيدين، لكي يُجهزوا على ما تبقى من الثورة وإرادة الإصلاح والتغيير، والظروف الإقليمية والدولية المحيطة بسورية اليوم هي في أعقد مشاهدها، وهي في كل يوم تنفتح على انعطافة جديدة لم تكن في الحسبان، ربّما تفجر أزمة أو حرب أو إبادة جديدة لتطلعات الناس وأرواحهم.

لم يتبق الكثير من الحلفاء ولا الكثير من الخيارات، هذا أيضاً يجب أن يكون حاضراً وواعياً عند الجميع، والذهاب نحو العناد والتضحية هو حماقة كبيرة عندما لا تكون هذه التضحية محمولة على إمكانيات النصر والتغيير، لأن الموت في النهاية هو خسارة عظيمة عندما يكون فقط من أجل تدبيج عبارات الخلود وقصائد الرثاء، والشهادة هي موت في سبيل الحياة، وليست خيار من أجل الخلاص من واقع مظلم لا نملك القدرة على تغييره. لأنها في تلك اللحظة تتحول إلى انتحار أو خلاص فردي مُترع بالأنانية والجُبن.

لا بدّ أيضاً من أن نتذكر أن السوريين لا يمثلون بضعة ملايين على الشريط الحدودي وفي المخيمات فقط، وإنما يمتدون على امتداد تلك البقعة الجغرافية التي نسميها الوطن، وفي أماكن كثيرة في هذا الشتات العالمي الذي نعاني منه، وإن هموم كل سوري في أي مكان وأحلامه هي حق له، علينا أن نعمل من أجله إذا كنا صادقين في سعينا القديم نحو الحرية والعدالة والكرامة، لأن التغيير الذي نريد صناعته لن يحدث مالم نصل إلى حل شامل أو نصر شامل، أمّا الحلول الجزئية فهي لا تعدو كونها أزمات مع وقف التنفيذ سرعان ما ستنفجر في وجوهنا جميعاً، لنغرق في الأزمة الكبرى مرة أخرى وبشكل أكثر عمقاً وانهزاماً.

لا يوجد في هذه المعادلة فرضيات أو طروحات مرفوضة بشكل مسبق دون دراسة متأنية، مهما كانت قاسية، سواء في حلحلة المشكلات الداخلية عند مجتمع (الثورة) أو في الوصول إلى حل شامل لسورية كلّها، وكل خطوة تخفف من معاناة الناس، أو تمثل تقدّم محتمل، هي خطوة جديرة بالمجازفة، لأنه مع كل يوم إضافي يمرّ على الأزمة في سورية هناك هوّة تتسع، وتعقيدات تتزايد، وأطراف جديدة تدخل على الساحة يصبح نسج حل شامل لإرضائهم جميعاً وإرضائنا معهم أكثر صعوبة، ونحن في هذه المعادلة نبدو بوضوح الطرف الأكثر ضعفاً وتضحية، وعلينا أن نكون الأكثر اهتماماً بأن لا تذهب تضحياتنا هباءً تحت شعار (كل شيء أو لا شيء).

في كل تعقيد وتفاصيل كثيرة هناك فرص تولد، علينا أن نهتم بإيجادها، لأن التعقيد الذي يجعل المهمّة أصعب، أحياناً يكون السبيل الوحيد لجعل المهمة ممكنة. في السياقات السهلة غالباً ما يكون الأقوياء هم المسيطرون، وفي السياقات المعقدة تولد الفرص للأقل قوة والأكثر مرونة وقدرة على الاستجابة والتكتيك والمناورة، هذا ما يجب أن نجيده، أمّا الخطابات الحاسمة فهي لغة الأطفال الذين لم يتعلموا الكلام بعد.

أخيراً هناك عبارة أجدها ضرورية في ظل مناكفات ادعاءات الشرعية، وتمثيل الناس عند مختلف الأطراف … في الأزمات والحروب والثورات لا شرعية سوى للإنجاز والعمل والانتصارات والتقدم وابتكار الحلول، أمّا ادعاءات التمثيل الشعبي أو الفئوي أو الرضا الدولي هي ادعاءات تزيد من التفرقة والتمزّق والاصطفاف، والانتخابات هي تجربة الثورات الفاشلة، فالمطلوب في الثورة والحرب هو الأكثر كفاءة، لأن المعركة لا تنتظر المعرفة والتجربة، وإنما تقوم عليهما.

أحمد وديع العبسياعتصام الكرامةالمعارضة السوريةتعقيدات المشهد السوريحلفاء الثورة السوريةصناعة التغيير