الهامش كفضاء خاص جداً

أحمد وديع العبسي

يُقال إن عمليات التغيير الكبيرة لا تقوم إلا بعد الضرب تجاه المسلمات المعهودة، بحيث تصبح محل شك واضطراب، وتجبر المجتمع فيما بعد لإعادة نقاش مسلماته وإنتاج مقولات أخرى جديدة تناسب وضعه الجديد، وبالتالي يسير خطوات نحو التغيير.

إلا أنني أعتقد ولست جازماً، إن ضرب المسلمات وهزّ المجتمع بقوة من أجل التغيير لا يكون في المجتمعات الضعيفة الهشة، لأنها غالباً ما تنكسر وتستند إلى مقولات حضارية أخرى تنتمي لمجتمعات ناهضة وحيوية، أي أنها لا تُجري تغييرها الخاص بها، الذي ينتمي لبنائها الحضاري وثقافتها القديمة التي تمثل الهوية والانتماء، وإنما تستبدل خصوصيتها بخصوية أخرى وتصبح مجتمعات تابعة بلا هوية وبلا كيان ثقافي وحضاري، وتنزلق مع الوقت نحو الدونية والشعور بسطوة الآخر عليها، وبضرورة التشبه به للخروج من حالتها المزرية.

إن الاستعباد الثقافي والحضاري يحدث أثناء عمليات التغيير الكبرى غير الواعية، خاصة عندما يبدأ التغيير بانتقاد الذات، انتقاد الهوية والتاريخ والثقافة والدين، هذه المكونات الأساسية التي تصنع أي شخصية حضارية، وتحافظ عليها.

وإن هروب منظري التغيير نحو الماضي لا يختلف عن هروب الطغاة نحو المستقبل، فكلاهما يريد أن يستبد بالناس عبر تجاهل مشاكل الحاضر التي لا يستطيع التحدث عنها أو تقديم حلول لها، ليصل إلى فكرة يمكنه معالجتها بأمان ودون الكثير من الجدال، فالطاغية يعدّ الناس بمستقبل أفضل دائماً، ومنظري التغيير يطالبون الناس بصناعة ماضي أفضل من أجل مستقبل أفضل، فيرمون كل المشاكل على الماضي الذي تسبب بوصول الأمور إلى النحو السيء الذي يعيشه الناس في حاضرهم.

والمستبدان يعجزان عن التعرّض لمشاكل الحاضر، لأنها في تحرّك وتبدّل مستمر، ومواجهتها أمر لا يمكن التنبؤ بنتائجه لأنها مشاكل قائمة على الحركية والصراع، غير منتهية، تستطيع بسهولة أن تظهر عجز ودجل ما يأتي به المستبدون.

إن فعل التغيير هو في مواجهة المشاكل، في إيجاد حلول لمعاناة الناس الآنية، في توفير الاحتياجات الأساسية لهم، والتي تمنحهم الحرية والقدرة على التفكير بالمسلّمات التي يريدون هزها بعيداً عن ضغوطات الاحتياجات القاهرة التي تسلبهم القدرة على التفكير الحرّ، وإنتاج ما يليق بهم وينتمي لشخصيتهم الحضارية والثقافية، عبر تطوير الأفكار القديمة بالاعتماد على نفس المنابع التي صنعت الحضارة، وليس ردم تلك المنابع بحجّة أنها لم تعد تصلح للحياة، واستيراد ثقافة معبأة واستهلاكية.

في مثل هذه الأجواء تبرز قيمة الهوامش كفضاء خاص يحافظ على الانتماء والهوية بعيداً عن فضاء البياض المعولم الذي تختلط فيه كل المعاني، وتزدحم فيه المفردات دون مرجعيات تعبر عنها، وتحمي المسلمات من التبديل والاستبدال وليس من التغيير.

أن تكون على الهامش في مرحلة الضعف التي تمرّ بها، أفضل آلاف المرات من أن تخرج ليتم طحنك في نصوص ومساحات لا تشبهك ولا تعبر عنك، ولا تحترم سياقاتك الدلالية والحضارية والتاريخية، إنّ الهامش هنا ليس تطرّفاً، وإنّما هوية أصيلة، وانتماء عميق لجذور معجمية ودلالية لا تسمح لأي متفلسف أو منظر بتفسير أي شيء إلا من خلالها، دون أي افتراءات استشراقية أو بنيوية أو فلسفية لا أصل لها في تلك الجذور ولا في السياقات التي نشأت من خلالها.

الهامش هو منطقة الأمان التي لا يجب أن تغادرها إلا عندما تكون قوياً وصلباً مهما حاول الآخرون شتمك في هذه الزاوية، لأنهم ببساطة يحاولون استفزازك من أجل سحلك ودهسك في فضائهم (الحرّ) وقيمهم الاستهلاكية المتسارعة والمجنونة التي لا تنتمي لها ولا تنتمي لك، ولا تحترم خصوصية الطريق والسائرين.

أحمد وديع العبسيالاستبدادالثقافة والهويةالمسلمات الحضاريةالهوامشالهوية والانتماءصناعة التغييرطغيان المثقف