إنّها السّاعةُ الخامسةُ الّتي أقضيها هنا في هذا الظّلام الشّديد، وربّما السّادسة، أو السّابعة، حقيقةً لا أدري، فإنّ الزّمنَ توقفَ عندي، لم أرَ النّور منذ زمنٍ بعيد، وكأنّ الليلَ المؤلمَ أصبحَ سرمديًّا، نعم سرمَدي، وَمَن إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيني بالنّهار!
– حتى ذاكرتي أصبحتْ تحتاجُ إلى ذاكرة، اتخيّلُ أنّي صحوتُ على اهتزازِ غرفتي، والنّومُ يملأُ جفوني، خِفتُ لهولِ الاهتزاز، حاولتُ أنْ أقفَ على قدميَّ ولكنّي لم أستطع، وكأنّهما اختفتا، أين ذهبتْ قدماي؟
لا أدري، ثم شعرتُ بأنينِ السّقفِ، حاولتُ تلمّسَ أمّي، فما استطعتُ أن أرفعَ يدي أيضًا، إنّ سقفَ البيتِ أفشل كلّ محاولتي، حين انهار.
نعم، لقد انهار السّقفُ والجدرانُ، كلُّ شيءٍ انهار في لحظات.
وأنا هنا منذ ذلك الانهيار تحت الركام.
– الظّلامُ شديدٌ جدًّا، والهواء يكادُ ينفدُ، أشعرُ أنّي أختنقُ شيئًا فشيئًا، الجدارُ غطّاني كلحافٍ مِن إسفلت، ولكنّه ولفَرطِ حُنوِّه عليّ، استنثى رأسي مِن الارتطام، و كأنّه يهتفُ بي: واللهِ لم أُرِدْ أن أنقضَّ، ولكن ما بي حيلة.
أنا أعلمُ يقينًا أنّ أمّي وأبي يسكنان بجانبي، نعم، هما بجانبي بكلِّ تأكيد، فأنا واثقة أنّنا نِمنا معًا، فبيتنا هذا الّذي سكنّاهُ بعد هجرتنا من دوما، مؤلّفٌ أصلًا من غرفةٍ وحيدة، نعم إنّها وحيدةٌ مثلي.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب
لم أكنْ قد سمعتُ قبل ذلك بمدينةٍ اسمها (جنديرس)، عرفتُ اسمها لأوّل مرّةٍ قبلَ النّزولِ مِن الحافلة الخضراء الّتي حمَلتنا إلى الشّمالِ البعيد بعدَ أن احتُلّت مدينتي دوما مِن جديد، أذكرُ تفاصيل بيتي في دوما جيّدًا، يبدو ألّا شيءَ يعملُ من جسدي وأنا تحتَ الأنقاض إلا ذاكرتي.
تجتاحُ جسدي النّحيل سيولُ الذّكريات وأنا أحاولُ أن أبتلعَ ريقي، ولكنّه جفَّ، لا أذكرُ أبدًا قبل اليوم أنّي ابتلعتُ هواءً جافًّا وعفِنًا بدل ريقيَ الغائب.
أنا لا أسمعُ صوتًا هنا، ولا حتّى أنين، لا صوتَ لأبي، ولا لأمّي، أنا واثقةٌ من قربهم منّي، فالسّقف الذي وقع علينا واحد.
حاولتُ أن أصيحَ، آه، أحاولُ أن أصرخَ بقوّة، آه، أين اختفى صوتي؟ لا أسمعُه،.. أحاولُ ثانية، أجرّبُ أنْ أندَهَ أمّي، أُ مّ ي. وينقطعُ الصوتُ، وهل وُجِدَ ثمّ انقطع! لستُ متأكّدة.
على أيّةِ حال، لا أحدَ يجيبُ.
أجاهدُ أنْ أتلمّس حولي، أحاولُ من جديد إن أجدَ شيئًا من أمّي، إنّها تنامُ بجانبي، إنّي لا أشعرُ بيدي أبدًا ، فضلًا أنْ أحرّكَها في محاولةٍ بائسةً أن أتلمّسَها.
يبدو أيضًا أن جسدي اختفى، لا أشعر بجذعِي، أين اختفيت أنا!
– أسمعُ ضجيجًا يأتيني مِن أعلى، أوه إنّني أحاولُ أن أُهدِّأ أفكاري لأنصِتْ
الحمد لله، حقًّا إنّ سمعي يعمل أشعرُ به فعلًا، صوتُ يطرقُ فوقَ رأسي، أسمعهُ يرتفعُ ثم يهوي، يبدو أنّها جرّافةٌ تحاول أنْ تجدنا تحت الرّكام.
هل ستجدنا حقًا، هل يمكن أن تجرفنا دونَ قصدٍ منها؟
يا لها مِن فكرةٍ مرعبة.
لا… سنخرج إن شاء الله ونحن على قيدِ الحياة.
لقد وعدتني أمّي أن تشتري لي حجابًا جديدًا يليقُ بي، وأبي وعدني بحقيبةٍ أنيقةٍ جديدة أحملُ بها أقلامي وكتبي وألواني المحبوبة، كَلّ هذا الحبّ والعطاء إن أنا ختمتُ تعلّمَ الجزءَ العاشر من القرآن الكريم.
سنخرجُ من تحتِ الرّكام وستفي أمي بوعدِها وأبي.
– الصّوتُ يقترب، كنتُ أشكُّ أنّي بين الحُلم والصّحو، هناك احتمالان لا ثالث لهما، إمّا أنّي في كابوس، أحاولُ جاهدةً أن أستيقظَ منه، وإمّا حقيقة.
– وأمام لحظةِ الحقيقةِ أرى نورًا يتسربُ إليّ، يتّسعُ النّورُ أكثر، ويدٌ تقترب مني، (يا حلوة وصلنالك، عمو، أنتِ بخير؟، اطلبي يا عمري شو بدك؟)
حاولتُ جاهدةً أنْ أبتلعَ ريقي ولكنّي تذكرتُ أنّه اختفى منذ زمن، صحتُ بكل صوتي: (عمو بدي مي)
– وبجانب المدفأةِ لففتُ نفسي، وحدي
وحدي هنا، أبحث عن وجه أمّي وأبي.
يقول الخبر: إنّ الدّفاعَ المدني السوري استطاعَ بفضلِ اللهِ أن ينقذ الطفلةَ سلمى، البالغة ١١ عامًا من تحتَ أنقاض بيتها المُهدّم كلّيًا في مدينة جنديرس، ولكن أبوَاها قضيا للأسف، وباتتْ سلمى يتيمة.