تتنوع ردود الفعل بعد الجولة الخامسة من اللجنة الدستورية ما بين مطالب بإيقاف ما أسماه (عملية عبثية)، وما بين منتقد لهذا الطرف أو ذاك، وما بين مؤيد لاستمرار العملية، وما بين حليم حائر.
وجدت مناسبًا أن أُبدِي بعض التعليقات، لا سيما أنني أُدْعَى أحيانًا لفعاليات وندوات تتحدث بهذا الشأن:
- لقد كانت فكرة المجتمع الدولي في عهد المبعوث الدولي الراحل (كوفي عنان) بإصدار بيان جنيف الذي ينصّ على “إقامة هيئة حكم انتقالية باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وأن تمارس هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكَّل على أساس الموافقة المتبادلة” فكرةً منطقيةً وموضوعيةً في ظروف ذلك الزمان، حيث كانت الشراكة بين المعارضة والنظام وقضية الموافقة المتبادلة قابلة للتطبيق بتسهيل وتيسير من وسطاء دوليين.
- 21 آب 2013 كان علامة فارقة في مسار الأحداث في سورية، حيث استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية في ريف دمشق، هذا الفعل الذي كان من الخطأ الفادح تمريره بمجرد قرار يؤكد بيان جنيف وتشكيل هيئة الحكم الانتقالية، بل كان الموقف السليم المتماهي مع القانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان، ومن باب الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين هو إصدار قرار ينزع الشرعية الدولية عن النظام السوري ويطرده من كافة مؤسسات الأمم المتحدة، ويشدد عليه العقوبات إلى أن يرحل عن السلطة، لكن الجميع يعلم أن الآلية الظالمة لاتخاذ القرار في مجلس الأمن الدولي (الفيتو) ستمنع أي قرار في مصلحة شعوب العالم؛ لأنه حتمًا سيقتضي ضرب مصلحة إحدى الدول الأعضاء فيه المتنازعة والمتمرسة بمعسكرات متباينة.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على تلغرام بالضغط هنا
- لقد قضى القرار 2118 لعام 2013 على آمال السوريين بالاقتصاص العادل من مجرمي الحرب الذين استخدموا الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، حيث ركَّز على نزع الأسلحة الكيماوية واستمرار العمل ببيان جنيف من حيث الموافقة المتبادلة التي تحدد تشكيلة هيئة الحكم الانتقالي المزمعة.
- تعدُّ آلية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بالموافقة المتبادلة آليةً معطلة مستحيلة التطبيق، فهل سيتنازل بشار الأسد وزمرته المجرمة عن مواقعهم في عملية الموافقة المتبادلة أم سيقبل الشعب المكلوم والمقتول والمرمي في السجون باستمرار الأسد وزمرته في عملية الموافقة المتبادلة؟!
- صدر القرار 2254 لعام 2015 ليتلاعب بين تأكيد بيان جنيف والقرار 2118، وذِكر هيئة الحكم الانتقالي في مقدمته، وبين عبارات مبهمة تتحدث عن حكم ذي مصداقية غير طائفي (دون بيان أي آليات لتحقيقه) ودستور وانتخابات.
- وزاد الطين بِلة ما ذهب إليه المبعوث الخاص ستيفان ديمستورا، وهو لا يخترع المبادرات من عقله بل تكون ثمار تحاور وتشاور مع الدول ذات الصلة والدول الخمسة الكبرى لاسيما أمريكا وروسيا، إلى قضية السلال الأربعة مفصلاً في آليات عمل سلة الدستور والانتخابات، وغير متطرق لسلة الحكم حتى انتهاء ولايته أواخر 2018.
- أنتجت آلية السلال الأربعة، وبالدفع من مسار آستانة، اللجنة الدستورية المكلَّفة بصياغة دستور جديد للبلاد.
- لعلَّ انتهاج التفكير بتجميد ما يتعلق بسلة الحكم وتفعيل سلة الدستور كان من قبيل تخلي الدول ضمنيًا عن فكرة هيئة الحكم الانتقالي أو معرفتها باستحالة تنفيذها؛ بسبب الموافقة المتبادلة التي لن تحصل، وبالتالي اللجوء لتفعيل حوار بين السوريين معارضة ونظام ومجتمع مدني من خلال اللجنة الدستورية لعلها تكسر جمودًا سببه الدول ذاتها، ودلالات ذلك كل ما صدر ويصدر عن الدول المختلفة منذ صدور القرار 2254 من مواقف وتصريحات بخصوص سورية (دول مجلس الأمن، ومجموعة الخمسة+2، ومجموعة آستانة)، فالكل يتحدث عن دستور وانتخابات في بيئة آمنة ومحايدة.
- بناءً على ذلك وضعت المعارضة السورية في موقف لا تحسد عليه، فشل الانتصار العسكري الكامل، والحشر في الزاوية في مسار الحل السياسي والمفاوضات، فلم يكن من بد إلا الانخراط فيما تفرضه الأمم المتحدة والحلفاء (وجميعهم دفعوا باتجاه اللجنة الدستورية).
اقرأ أيضاً: لماذا تطالب إسرائيل روسيا بالكشف عن صفقتها مع الأسد؟
ماذا بعد الجولة الخامسة؟
- من الواضح أن اللجنة الدستورية بصيغتها البنيوية ومبادئها التوجيهية ومدونة سلوكها قد وُلدت لمهمة أخرى غير كتابة الدستور السوري، فإما لتحريك المياه الراكدة وإشعار السوريين أن الأمم المتحدة فاعلة في ملفهم، أو لإيجاد منصة يتحدث السوريون مع بعضهم من خلالها، أو للحفاظ على خفض التصعيد بمقايضة مع روسيا (عملية سياسية مختزلة بملهاة الدستور مقابل خفض تصعيد).
- من خلال الجولات الخمسة السابقة تبيَّن أن النظام لا يمكن أن تكسر مواقفه إلا بكسر مواقف حلفائه (الروس والإيرانيين).
- إصرار مجموعة آستانة وبينها أهم حليف للمعارضة السورية على استكمال عمل اللجنة الدستورية بأي ثمن يجب أن يؤخذ بعين الحسبان، ويشكل عاملاً من العوامل الاضطرارية للنظام والمعارضة بالاستمرار في جولات اللجنة الدستورية، فمجموعة آستانة هي اللاعب الأول والمباشر على الأرض، وكل يبحث عن أمنه ومصالحه.
فتركيا صاحبة الحدود الأطول مع سورية تبحث عن أمنها القومي، وبالتالي يفيدها الهدوء على الجبهات التي باتت فقط على حدودها.
وإيران غارقة في المستنقع ومصرَّة على تصدير مشروعها والحفاظ على حارسها الأمين في قصر الأمويين وتقتضي مرحلة التضييق عليهم بالعقوبات أقل قدر من الاستنزاف الذي يحققه لهم خفض التصعيد.
أما روسيا فدافع الضريبة الأكبر والطامح للغنيمة الأوسع سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا في سورية أيضًا يهمها خفض التصعيد في هذه المرحلة، وإلهاء السوريين بمسار اللجنة الدستورية لينهي مساوماته الدولية فيما يتعلق بغنيمته المذكورة.
- ما تقدم يشير بقوة إلى بقاء الوضع على ما هو عليه في كل الجبهات السياسية والعسكرية، ودافع الثمن الوحيد هو الشعب السوري سواء القابع تحت ظلم النظام أو المشتَّت في النزوح والتهجير، ولا بدَّ من خلق حالة سورية تسعى لاستثمار أي مورد متاح للبقاء في المشهد الدولي، ومن ذلك إمكانية تمكين إدارة قوية في الشمال السوري، وانتقال المعارضة الرسمية إلى مربع أخضر داخل سورية منتظم العلاقة مع الحالة العسكرية لتشكيل توازن رعب وردع مع النظام، كما تهدف لإعادة صياغة العلاقة مع المجتمع الدولي والانتقال من حالة المتفاعل إلى حالة الفاعل والمبادر.
- أيضًا لا بد من الاستمرار بالعمل مع المنظومة الدولية في المفاوضات بما فيها اللجنة الدستورية، إذًا لا فائدة من التفرج من خارج ساحات الملاعب، بل من الضروري الوجود في خطوط الهجوم أو الدفاع بأسوأ الأحوال.