مرّت اثنتا عشرة سنة أو تزيد على هجرتِنا عن بيتَِنا العتيق هناكَ في صلاحِ الدّين؛ عبق الذّكرى يفوح بين حروف الحنين؛ ولا غرابة؛ فهناكَ ولِدتُ وهناك خطوتُ الخطوة الأولى؛ وعلى رأس شارعنا مدرسةٌ عتيقة تُدعى (جبلَ الشيخ) على مقاعدِها درستُ الابتدائيّة؛ أشتمّ إلى الآن رائحة الطّبشور بين أصابع معلّمتي المُغبّرة. وذاك هو الحنين؛ لا شيء إلا الحنين في الأربعين.
أعودُ إلى يومِ الجمعة يوم الرحيل؛ لم يخطر لي أبدًا أنّها ستكون آخر خطبةٍ أسمعها في جامع صلاح الدين الكبير؛ كان الشيخُ يحملُ بندقيّة ويشقّ صفوف المُصلّين؛ في مشهدٍ غريبٍ جدًّا لم نألفهُ من قبلُ أبدًا؛ يصعدُ المنبر ويقول لأوّل مرّةً؛ يسقط بشار الأسد؛ كانت الكلمات حقًّا تشبه الصّعقة؛ المصلّون وكأنّ على رؤوسهم الطّير؛ سامِدون متحيّرون؛ لقد عاشوا حياتهم جميعًا وهم لا يجرؤون أن يذكروا القائد بسوءٍ في غُرف نومِهم مع زوجاتِهم؛ وحتّى أن يحدّثوا أنفسهم بهذا؛ لقد زرعوا في قلوبهم أنّ لكل الحيطان آذانٌ كبيرةٌ كآذان الأنعام؛ تسمع همسهم وتنقله للسلطان؛ وفجأة ومِن على المِنبر يصيح الإمام؛ لبّيك يا الله.
يسقط الأسد، ولعن الله روحَ الأب.
نعم منذ اثني عشر عامًا سقط الفرعون الأسد؛ سقطت هيبتُه وسطوته مرّةً واحدةً وإلى الأبد؛ وتحرّكت فطرة الحرّية والكرامة الّتي فطر اللهُ النّاس عليها، وبدأتِ الثورة السّوريّة أيام مسيرها الطويل نحو الحرّية.
وعلى أنغام البراميل المتفجّرة وتوقّف القلوبِ مع كلّ غارةٍ جوّيّة بدأت أنوار الحرّية تلوح؛ أعدادُ الشهداء تعلو أكثر فأكثر حتى تبلغَ السماء.
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب
أذكر الأيام الأولى للهجرة؛ جلسنا في الحمدانيّة المطلّة على صلاح الدين لِنراقبَ الحبيبة عن قُرب ونبثّها شجونَنا؛ كانتِ المرّة الأولى على الأقل لأبناء جيلنا الصّغير؛ التي نرى فيها طائرةً حربية في السّماء تنفّذ غاراتٍ جوية؛ الأمرُ مدهشٌِ حقًّا وغريب؛ أذكر أنّ غارةً أصابت مدرستي (القنيطرة) فبعثرت المقاعدَ والسبّورة وخرّ السقف ساجدًا فوق ذكريات العلوم؛ وغارةً أخرى بالقرب من دوّار صلاح الدين؛ وعلى الرّغم أنّه كان أجدبًا إلّا أني اشتقتُ إليه؛ وغارة بالقرب من بيتنا هدّمت النوافذَ وفتحتها على النور المؤلم؛ و استمرّت الغارات حتى بلغت الآلاف قتًلا وتدميرًا وخوفًا من حريّة قد تعلّم طفلًا يصنعه اللهُ على عينه؛ فيجعل هلاكَ فرعون على يديه.
وبدأنا رحلةً الهجرة الطويلة جدًّا منذ ذلكَ الحين، والآن نحن في الثانية عشر للهجرة؛ في أعزاز نكتب للحرّية وننشدها وحتى نحن تحت الجروح مزلزلين، ونشتاق إلى حلب هناك في أقصى الرّوح؛ إلى بيت ولدتُ فيه هناك؛ في صلاح الدين.