في هذا المقال المطول وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة حاولت أن أجمع شتات بعض المقالات التي كتبتها عن المرأة في مقال واحد
“ما يعيق 98٪ من النساء ويمنعهنَّ عن مواصلة أحلامهنَّ، هنَّ أنفسهنَّ وقرارتهنَّ، فما الدينُ والمجتمع والرجل سوى غطاء لتبرير اختياراتها أو عدم قدرتها على اتخاذ قرارات”.
هكذا كتبت “جمانة لمونس” من الجزائر في إحدى مدوناتها، ولا أعرف حقيقةً مدى صحة هذه المعلومة، لكنَّها كانت كافية لتحفّزني على الكتابة في ذات الموضوع، فمن يا تُرى يقف وراء ظلم المرأة وحرمانها من حقوقها؟!.
سهلٌ جداً أن نقول إنَّها المرأة، فهي المربية، والأم، وهي من تفضل الذكور، وتدفع بالشاب ليكون دائماً في الصدارة، وهي من تلقن ابنتها وجوبَ التزام المنزل واحتراف المطبخ وووو … الخ.
لكن كيف وقعت المرأة نفسها ضحية هذه الخيارات وهذه القناعات؟!، وكيف يجب أن تفهم حقوقها؟!، وما عليها فعله لاسترداد ذاتها المسلوبة حتى من بنات جنسها؟!
أسئلةٌ لا أظنُ أنّي سأتولَّى الإجابة عنها بدلاً من المرأة، .. عليها أن تكون قادرة هي على معرفة من شكَّل لديها قناعة أفضلية الرجل!، وكيف بدأت تلك القصة في مجتمعنا العربي!، وكيف تم لَيُّ النص الديني دائماً ليناسب الرجل أكثر من المرأة؟!
إنّها قضيتها هي، وليس للرجال أن يتفضلوا على النساء بحلّها، حتى لا يكونوا في المقدمة مرةً أخرى، كما تصنفهم النساء دائماً.
ليس جديداً أن المرأة العربية والمسلمة مازالت تعاني بشكل كبير من أشكال تمييز شديدة الخطورة ضدها، لكن هذا التمييز لا ترتد أثاره على المرأة وحدها، التي تقبع في حالة مظلومية منذ عقود، وإنما تمتد للمجتمع العربي ككل، والذي صار يتشكل بطريقة عرجاء، عندما أصبح ذكوري الهوية والتوجه والديناميكية، ولا يهتم بالمرأة إلا كسلعة ترويجيّة على طريقة الثقافة الغربية، مهمتها جذب الرجال فحسب.
كما أنه ليس جديداً على الإطلاق عندما نقول إن التربية النسائية العربية ساهمت في إضفاء الطابع الذكوري على المجتمع العربي، هذه التربية التي دائماً ما كانت تستند إلى مقولات دينية مفرغة المحتوى ومجتزأة من سياقها، تجعل الاتجاه نحو تقديم الذكر وتحجيم دور المرأة حالة تعبديّة تسعى لها المرأة والرجل على السواء، وجميع من كان يشذُّ عن هذه القاعدة كان ينظر إليه كجزء من مجتمع متحرر (متفلت على الأصح) لا يقيم للتعاليم الدينية والمجتمعية وزنها الذي يحفظ نقاء المجتمع العربي والحالة القويمة في التربية.
شهد المجتمع العربي إزاء هذه الحالة تشظي في الهويات التي تنتمي لها المرأة، فيما حافظ الرجل على هوية واحدة تقريباً، ففي حين أن الرجل العربي ينتمي إلى الثقافة العربية بتنوعها بدون تمييز يكاد يُذكر إلّا في نطاقات ضيقة ليست موضوعنا الآن، أصبح للمرأة العربية ثلاث هويّات واضحة ومتوازية، وفي حالة صراع ضمني قد لا يظهر على السطح وهي:
الهوية الأولى: كانت هوية المرأة المحافظة، ربة المنزل الملتزمة دينياً، والتي تعمل فقط على حفظ زوجها وتربية أبنائها بإرادته، وعلى طريقته، وهذه الهوية هي الأكثر انتشاراً ونمطية في العالم العربي، والأكثر تعبيراً عن الحالة النسائية فيه
الهوية الثانية: هوية المرأة المتحررة، والتي كانت تتمثل بالمرأة العاملة بشقيها الأول: الذي بقي من الناحية الشكلية محافظاً وينتمي للهوية الأولى شكلاً ونصّاً ويدعي أنه يقوم بتحرير المرأة وفق القواعد الدينية الصحيحة، والثاني الذي خرجت فيه المرأة حتى من الإطار الشكلي، وصارت تُحسب على النموذج العلماني الغربي الذي دعا إلى تحرير المرأة من جميع القيود وإعطائها حريتها كاملة دون النظر إلى الضوابط الإيديولوجية سواء كانت هذه الضوابط حقيقية أو زائفة، فقد كانت المرأة ترى هنا أنّ عليها أن تخطو إلى الأمام، وعلى المجتمع أن يعمل على شرعنة خطواتها، لا أن تنتظر المجتمع ليشرعن لها طريقها ويعيد رسمه بنفس الطريقة الذكورية التي تسيطر على المجتمع والبعد النظري والفلسفي الذي يحكمه
أحد أهم التحديات التي يجب على المرأة مواجهتها، لكي تختار هي بعناية ما تريد أن تظهر به في عملها السياسي دون ضغوطات إيديولوجية أصبحت واضحة جداً في عدد كبير من المجالات بدءاً من المنصات الدولية مروراً بمنظمات المجتمع المدني ووصولاً إلى اهتمام الإعلام والمنظومات الإنسانية.
الهوية الثالثة: هوية المرأة غير المسلمة، تلك المرأة التي اقتحمت مجالات العمل بأريحيّة، وكان لها دور الريادة بالدعوة إلى تحرير المرأة على اعتبار أنها لا تخضع لبعد إيديولوجي يقيّد عملها، وتستند على نظرية غربية تراها أنموذجاً في تحرير المرأة.
الهوية الثالثة تحركت بأريحية نسبية أكثر من الهوية التي قبلها، إذ كانت لا تتعرض لأي ضغوطات من المجتمع الذي كانت تسود فيه الهوية الأولى، على مبدأ (لكم دينكم ولي دين)، بينما كانت الهوية الثانية في صراع محتدم مع الهوية الأولى باعتبارها خرجت من بين صفوفها كحالة تمرّد، وفي صراع أيضاً مع الهوية الثالثة التي تحاول أن تذهب بها إلى بعد علماني يخرجها عن إطارها الإيديولوجي بدعوى الاندماج، وفي صراع (بيني متشتت) بين مختلف طبقاتها وأجزائها يتلخص في أين يجب أن نقف؟ وكيف نجعل لحرية المرأة معايير خاصة بمجتمعنا الشرقي الذي يتمتع بهوية تختلف عن الهويات الأخرى والعولمة المكثّفة.
هذه الحالة رغم حدوث تغيّرات كبيرة نسبياً في المساحات التي تشغلها كل هوية من مجتمع المرأة العربي، لازالت تمثل الشكل المسيطر على الجغرافيا الاجتماعية للمرأة العربية والمسلمة.
ولكن ما هو الحل؟؟ وكيف تستطيع المرأة تجاوز صراعاتها داخل العقلية العربية من أجل خطوات أكثر حسماً وأكثر قابلية للاستمرار والتطور في مستقبلها.
لا بد ألّا ننكر أن الثقافة العربية الإسلامية حالة مسيطرة لن يجدي التعامل معها بإقصاء أي فائدة في هذا الطريق، فالعقيدة الراسخة والبعد الغيبي الأخروي كفيلان في استمرار تحطيم أي تيار يحاول المواجهة بمقولات دينية شديدة اللهجة تصل حدود التكفير في كثير من الأحيان، لذلك لا بدّ من العمل على إعادة إنتاج الفهم الإسلامي وفق المصادر، وهنا لا بدّ أن نشير إلى أن هذه المصادر مليئة بما يساعد المرأة في خطواتها القادمة ويجعلها تسير بكل ثبات وتمكّن. إذ أنّ الحالة السائدة من الفهم لهذه المصادر مليئة بالتشوه التاريخي الذي حكمته الظروف والأعراف والتقاليد التي تخص أزمنة معينة لا يمكن أن تنطبق على أيامنا هذه، فلا بد من إعادة عصرنة الفهم للموروث الديني بما يلائم حركية المجتمع بجزأيه لكي يتخلص من العَرَج والتشوه.
الأمر الثاني المهم جداً هو مراعاة الجوانب الوظيفية لدى المرأة، أو لنقل حالة التكامل الوظيفي مع الرجل دون الانتقاص من حقها الكامل في الممارسات الاجتماعية والسياسية وغيرها، إذا كنا نعتقد أن المجتمع هو صيغة متكاملة فلا يجب أن تتصادم أدوار المؤسسات فيه فضلاً عن الأفراد فضلاً عن النساء والرجال، فالعدالة الكاملة هي حق لا المساواة، ولتأخذ المرأة ما تريده هي بكامل الحرية، لا أن نملي عليها ما يجب أن تأخذه لكي تكون امرأة عصرية ومتحررة.
فبدل أن توفر النسويات الحرية الأكبر للمرأة في اختياراتها، قامت بمحاربة البيئة القديمة التي تعيشها المرأة، وعدَّت أن خيارات المرأة ضمن مجالات التربية والمنزل نوع من العبودية الذي لا يتفق مع الحرية الجديدة التي يجب أن تسلكها المرأة رغم أنفها لتكون حرّة ومنسجمة مع الإطار النسوي العالمي، بل تصل بعض مبادرات النسوية اليوم إلى ممارسة إرهاب فكري على الشكل القديم لحياة المرأة وعلى حرمانها من خياراتها التقليدية وتصفها بالرجعية.
الأمر الثالث ينبغي أن يكف المجتمع عن حالة المقارنة بين الرجل والمرأة وكأن هناك حرباً ضروساً بين جزأيه، وإنما عليه أن يعيد بناء الحالة الصحية بين هذين الجزأين من خلال التعليم والتربية، والإعلام، وإعادة رسم خطوط هذه العلاقة بشكلها السوي، فالمرأة لا تأخذ حقوقها من أجل أن تصبح كالرجل، إنه أمر مهين للمرأة سعيها لأن تكون كالرجال، كما هو مهين للرجال أن يسعوا ليكونوا كالنساء، عليها أن تأخذ حقوقها لتكون كما هي .. امرأة فاعلة في مجتمعها تمثل بعده الأشد أهمية والذي يتكئ عليه البعد الآخر الذي يمثله الرجال.
إن فهم حالة مساواة المرأة بالرجل على أنها حالة مستقلة عن التكامل الوظيفي سيعود علينا بمجتمع مشوه آخر أصبح كلّه رجالاً إذا شابهت المرأة الرجل، أوكلّه نساء إذا حدث العكس، .. على الحالة الاجتماعية أن تكون موجودة بجزأيها كما هي، أن تُشبه المرأة نفسها وتحقق ما تطمح إليه، وكذلك الرجل.
أنتِ لكِ مكانكِ الذي تختارينه بحريّةٍ تامة، وبما تشعرين أنَّه يتناسب مع طبيعتك الأنثوية، أمّا نحن فمقتنعون جداً بأمكنتنا كرجال، وصعبٌ علينا حقيقةً أن نتنازل عنها فقط لمجرد المساواة المزعومة، لكنَّها إن كانت لكِ، فلن تناسبنا، فنحن لسنا نساءً، وأنتنًّ لستنَّ رجالاً. والأرض لنا مناصفةً، .. لذلك أرجو منكنَّ ألّا تحشرنَ أنفسكنَّ في المكان المخصص لنا، فهو مزدحم بما يكفي، بينما يبقى مكانكنَّ فارغاً، ونحن لا نمتلك القدرة على إدارته، ببساطة لأنَّنا لسنا نساءً.
أخيراً ..
لا بد أن تصدر حركيّة المرأة عن المرأة نفسها، لأنها إن صدرت عن الرجل ستبقى رهينة تصوره عن دور المرأة، وهذا التصور مهما كان عادلاً لن يحقق طموح المرأة ولا الكمال الذي ترنو إليه، لأنه لا يصدر إلا عن حاجات اجتماعية بحضور المرأة بالنسبة للرجل، وليس عن حاجات اجتماعية ذاتية للمرأة لا تتحقق إلا بوجودها من خلال رؤيتها هي وفهمها السيكولوجي لهذه الرؤية.
التحدي الحقيقي هو في إعادة صياغة العقلية العربية بجزأيها، أن تعرف المرأة دورها حقيقة وتعمل على إعادة صياغته في كافة مؤسسات المجتمع التي تضمن لها تواجداً مهماً لهذا الدور في المستقبل، وخاصة في قطاعات التربية والتعليم والإعلام، وعلى الرجل أن يلتزم بإرادة المرأة وطموحها، ويسعى لخلق الحالة التكاملية التشاركية معها من أجل الوصول لمجتمع أفضل.
صباحكِ سكر …