في البداية لا بدّ من بضع كلمات لأولئك الذين يحبون جيفارا، أو الآخرين الذين يكرهونه، هذه المقالة لا تهدف إلى تقييم الرجل ولا تجربته، ولا ثورته ولا مبادئه، وتنفي هذه المقالة مسبقاً أي صلة بين جيفارا، وبين الواقع الذي ترغب بالحديث عنه. وإنما تهدف إلى التعليق على الحكاية.
في خريف ما، من النصف الثاني من القرن العشرين، تم إلقاء القبض على جيفارا وإعدامه، بعد أن وشى به راعي أغنام في المنطقة التي كان يختبئ بها، كما تقول واحدة من أشهر الحكايات عن موته والتي ذكرتها العديد من الكتب والحكايات، وعندما سأل أحدهم الراعي الفقير، لماذا وشيت برجل قضى حياته في الدفاع عنكم وعن حقوقكم؟ فأجاب: كانت حروبه مع الجنود تروّع أغنامي. انتهت القصة.
وبعيداً عن التحقق من صحة القصة، فهذه مهمة التاريخ لا المقالة، تبدو العبرة من القصة شديدة السوداوية، عندما نرى أن مناضلاً يخسر حياته بسبب من يدافع عنهم، لا بسبب الأعداء، وكثيراً ما يتم الاستشهاد بهذه القصة ضمن هذا السياق، دون أن نُتعب أنفسنا ولو لمرة واحدة في سبيل فهم وجهة نظر الراعي والتفكير بها بجدّية، ودون أن نعطيه تلك القيمة كإنسان، عندما يفكر بهمومه الخاصة وتطلعاته للمستقبل، ونكتفي بالتباكي على نهاية جيفارا المؤلمة بوشاية من كان يعمل لأجلهم!! طعنة مؤلمة في الظهر وفاجعة كبيرة … أليس كذلك؟!
اقرأ أيضاً: عصر الفقاقيع
جزء من الحقيقة يكمن في فهم وجهة نظر الثورة، والجزء الأهم يكمن في فهم وجهة نظر الناس، والراعي الذي يمثلهم على وجه الخصوص، إن حياة الراعي متمثلة في أغنامه، وإنه سيكون وفياً لمن يساعده على الاعتناء بها، لأنها تمثل الحاضر والأمان والمستقبل بالنسبة إليه ولأولاده، وكل الأفكار والقيم المتعلقة بالعدالة والحرية وسيادة القانون تبقى أفكار مجردة لا قيمة لها إن كان ثمنها حياة الأغنام بلا مقابل.
في سياق تاريخي آخر يبدو أكثر مصداقية، يقف عبد المطلب بن هاشم سيد مكّة بوجه أبرهة الحبشي عندما جاء ليهدم الكعبة التي يقدسها هو وقبيلته قريش وسائر العرب، ليقول له: أنا ربّ الإبل، وللبيت ربٌّ يحميه، وهو يطالبه بردّ ما أخذه الجنود من إبله.
لم يكن عبد المطلب يعلم أن الله سيرسل طيراً من السماء لتدافع عن الكعبة المشرفة، ولكنه لم يكن ليرضى أن يخسر إبله في حرب بلا فائدة، تنعدم فيها موازين القوة والمقاومة، وكان بحاجة للإبل، فهي تمثل له الحاضر والمستقبل. وربما تساعده من أجل بناء الكعبة من جديد!
لا يمكن أن تنتصر الثورة وهي متجاهلة لهموم الناس، ولحاجاتهم، ولمشاكلهم، ومهما بلغت التضحيات سيكون الناس الذين تدعي أنك تعمل لأجلهم هم الأعداء في النهاية، لأنك لم تحاول فهمهم وفهم ما يريدون، وسعيت نحو تصور خاص بك، ناضلت من أجل المجد والرفعة، لا من أجل العدالة، لأن العدالة تكمن من اللحظة الأولى في تحقيق طموحات الناس، وإنفاذ إرادتهم تجاه ما يرغبون به، وليس حملهم نحو الفردوس الذي تتخيله أنت، وتتخيل أنهم سيحبونه.
إن طبيعة الناس هي الوفاء للقيم، لأنهم يؤمنون أنها ستتحول إلى سلوك وأفعال، لذلك فهم يبذلون الغالي والنفيس تجاه ما يؤمنون به، ولكنهم أيضاً لا يحتملون الخسارة دون مقابل، ولا يحتملون من يدعي أنه يقاتل من أجلهم ثم لا يشاركهم همومهم ولا يعيش ما يعيشونه من قسوة وحرمان، ليعرف ما الأهم لديهم في هذه اللحظة، هل هي المعركة أم قطيع الأغنام؟
لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا
إن من يحمي القطيع هو من سيلتف الناس حوله، لا من يجعجع ليل نهار بشعارات براقة، ثم لا يستطيع حماية نفسه من بعض قطاع الطرق، أو من قرار يتخذه الأوصياء عليه. هذا هو المنطق الواقعي الذي تسير عليه سنن الأرض، لا الأحلام التي يحملها البعض ويتخيلون أنها ستحدث يوماً ما، الأحلام لا تتحقق، الرؤى هي من تجد طريقها للعالم الحقيقي، والرؤى تلك تكون واقعية، معجونة بالعمل والسعي والحشد والفهم وتحقيق مصالح الناس ومشاركتهم، لا الأمنيات الفارغة التي يسكر بها الحمقى ويتناقلونها بينهم وتصفق لها الجماهير في لحظات من النشوة ثم يصحو الجميع ليضربوا كفاً على كف ويبدؤوا رحلة البحث عن أسباب العيش بأيدي متعبة من التصفيق حول أمور غير مفهومة.
إن الأغنام هي مفتاح الحل، وفهم وجهة نظر الراعي هو طريق التغيير، ثم تأتي بعد ذلك معركة الثورة وشجاعة الثوار.
الثورة التي ستتجاهل الراعي ستفشل، والثوار الذين سيفزعون الأغنام سيقتلون، والبلاد التي لا تقوم على احتياجات الناس ومصالحهم هي بلاد خربة، مصيرها إلى الدمار مهما ظهر في أرجائها من مظاهر العمران.