حرفةُ البائسين

نهى بيروتي

مزّقَت أوراقَها بعصبيةٍ ملحوظةٍ

وتنفّستْ عميقًا

يا إلهي، كيفَ يُكتب الشعور…؟

تجلسُ كلّ ليلة إلى طاولتِها، ترتّب أوراقَها

تجمعُ أحلامَها حلمًا حلمًا، تتأمّلها طويلًا

ثم تُسارع لتدسَّها في أحضانِ الأوراق

تقول: الكتابة يا سيدي حرفةُ البائسين، وحدَهم من يجيدون العزفَ على أوتارها المهترئة

ويدركونَ كيف ينفثونَ شجنهم في نايِها الحزين، فيتراكَم حزنُهم على حزنه؛ لتخرجَ معزوفةً مركزةً من البؤس الخام…!

هي مقبرتُهم، يدفنونَ بين حروفها خيباتٍ ما كانتْ لتُحكى لأحد، ويوارون بثراها قصصًا دافئةً خطفَ القدر نهايتها وفرّ.

الكتابة يا سيدي، صدرٌ رحب، يمكنه احتواءَ ثرثرتك الفارغة دون أدنى تذمّر

تكونُ عاريًا تمامًا، وأنت في حضرة الورقة

تبكي وتضحك، تضعفُ وتنهار، ثم تجمعُ شتاتك من بقايا حبر متناثر وتعيد تكوين ذاتك…

سيدي

على بوابة الأبجدية هناك نُقش بخط واثقٍ عريض

إياك أن تنتهكَ حرمة الحرفِ، ما لم يكن بوحكَ نابعًا من داخلك

لا فائدة من الكلامِ المنمّق إذا كان مفتقدًا للتجربة الخالصة وللشعور الفتي

لا تكتبْ

قبلَ أن تشعر أن قوةً ما بداخلك ستنفجر حالًا…!

لا تكتب

وأنت وسط الحشود، مشتتَ الذهن، مبعثر الفكرِ…!

لا تكتب

وأنت تشربُ النسكافيه، وتستمع إلى الموسيقا في ساعات مبكرة من النهار…!

بل اختلِ بنفسك ليلًا فالليلُ هو الوقت الأصدق للشعور، حسب توقيت الكتابة

استدعِ جروحك جرحًا جرحًا..خيباتك خيبةً خيبة…

تذكّر كم مرة صُفعتَ من اليدِ التي قبلتَها ذاتَ حب!، تذكّر كم مرةً ضاقَت بكَ الأرض ذرعًا، ولم تجد حضنًا دافئًا واحدًا يحتويك!، تذكر كم مرة احترقت بنار الانتظار، وتجمّدت بالحضور البارد!..كم مرة قُتلت، طُعنت، فَشلت، وتألمت…

حين تشعرُ بغصّة ما في حلقك، وينتابك إحساسٌ بأنّ ضلوعك تقترب من بعضها البعض

حتى بالكاد يختنق النبض داخلك، حين ترتعش

وتحمرّ عينيك من حبس الدموع

حينها..

فقط اكتب

واكتب واكتب….

فعالم الكتابة يرحّب بكَ” بائسًا كاتبًا إنسانًا في أرجائه….”

 

بعد مضي ثلاث ذكريات وخمسة عشر انهياراً

الغرفةُ خالية، الطاولة عليها بقايا حبر واقلام مبعثرة بفوضوية

أوراق ممزّقة تفيض من سلة المهملات

ورقةٌ وحيدة موضوعة على المنضدة

مكتوب عليها بخطٍ متناسقٍ منتظم

“وأخيرًا لقد وجدتُ من يحتويني…”

الكتابةالكتابة الأدبيةخواطرفن الكتابةفنون أدبيةكتابةمقالات أدبيةنهى بيروتي