▪لماذا هذه القراءة؟
انتشرتْ في الآونة الأخيـرة على امتدادِ الشهرَين السابقَين في المجتمعات و القنوات الافتراضية عبر تطبيقات التواصل الاجتماعيّ دعواتٌ لقراءةِ كتابٍ نُشِرَ أواخرَ القرن الماضي عام [1993مـ] يحملُ عنوانَ (حركة النفسِ الزكيّة.. كيفَ نستفيدُ من أخطاء الماضي؟) للمؤلفِ «د. محمد العبده» و قد نُشرُ الكتابُ الكترونيّاً بصيغة الـ PDF على كثيرٍ من المجموعات الثوريّة السوريّة؛ و قد وصلني من عدّة طرقٍ عبرَ الأصدقاءِ و الشبابِ في الداخل و الخارج مُستفسرين: هل اطّلعَتَ على الكتابِ أو قرأتَه؟!
فعدتُ إلى أرشيفي من الكتب الالكترونية فوجدتُ الكتابَ ضمن محفوظاتي غيرَ أنّ الفرصةَ لم تسنحْ ليَ سابقاً لقراءتِه؛ و لكثرة الاستفسارات التي أثارتْ في نفسي حبَّ المعرفة لِمَا يحويه مضمونُ الكتابِ من أفكار، عكفتُ على قراءتِه مرتين متتاليتَين بمعدّل ثلاثِ جَلْسات لكل قراءة. و ليسَ سِرّاً إذا قلتُ: إنّ الذي شحذ همتي لقراءة الكتاب هي تلك الأسئلةُ المحمّلةُ بمزيجٍ من الاضطرابِ و التشويش ممّن يسألُ و يستفسرُ فاستقرّ في ذهني أنّ الكتابَ قد أشكلَ فهمُ مرادِ مؤلِّفِه على البعض أو أنّه يحملُ عباراتٍ و تحليلات إشكاليّة…
و بعد قراءة هذا الكتابِ المفيدِ الجريء بطرحه و هذه حقيقةٌ -كما سنرى في بيان رسالة الكتاب- غيرَ أنّ بعضَ التيارات -لا على التعيين- كان لهـا هدفٌ آخرُ من نشرِ هذا الكتاب و دعوةِ الشباب -تحديداً- لقراءتِه في هذه الظروف السياسية التي تابعنـا أحداثَها و تصريحاتِ السَّاسَةِ عنها المتمثلة بمبادرات المصالحة و تطبيع العلاقات السياسيّة و المخابراتية مع نظام أسد، و لكي أكونَ دقيقاً فإنّ الكتابَ يحملُ رؤيةً نقديّةً موضوعيّةً جريئةً لأحداثِ التاريخِ و حركات التغيير، غيرَ أنّه يشتملُ في الآنِ ذاته على عباراتٍ إشكاليّةٍ و أحداثٍ تاريخيّة حرجةٍ من تاريخِ أمّتنـا قد لا يستطيعُ القارئُ البسيط الذي لا يملكُ رؤيةً تاريخيّةً كافيةً عن الحدثِ الذي يعرِضُه الكاتبُ و الحقبةِ التاريخية و سماتهـا التي حدث فيها ذلك الحدث، فهم مراده .. لذلك قد يُسيءُ الفهمَ لمرادِ الكاتبِ بل قد يفهمُ خلافَ ما تريدُه رسالة الكتاب؛ سيما أنّ الكتابَ يندرجُ تحتَ خانة الدراساتِ التاريخيّة الهادفةِ لتحليلِ الأحداثِ و استلهامِ الدروس بعدَ الدراسةِ النقديّة الموضوعيّة بغيةَ الاستثمارِ في المستقبل نحو النهوضِ و العمل، و ليسَ الهدفُ -كما تُسوّقُه بعضُ الأجندات المشبوهة- هو التثبيطُ و القَبول بأي واقعٍ و القعودُ عن العمل مستغلين عدمَ وضوحِ بعضِ عبارات الكتاب و أفكاره فيفهمُهـا القارئُ الذي لا يملكُ الرؤيةَ التاريخيّةَ الكافيةَ أنّ الكاتبَ يقدّمُ رؤيةً سلبيةً لأي تغيير -بما فيها حركاتُ الربيع العربيّ التي تجازوت العقد زمنياً-!! في حين أنّ الكاتبَ يدعو بوضوحٍ لاستقراءِ التاريخِ و نقدِه و استثمارِ ذلك في مشاريعِ تغييرٍ مدروسةٍ لا مشاريعَ تغيير عاطفيّة راسماً لذلك وفقَ رؤيتٍه معالمَ لاستراتيجيات التغيير حيثُ يصرّحُ في مقدمة كتابه [صـ7ـ]: «و أعتقدُ أنّنا لو درسنا تاريخَ المسلمين دراسةً تفصيليّةً واعيةً لاستفدنا منه كثيراً في حياتنا المعاصرةِ، و لَمَا تخبّطَ المسلمون في هذا العصرِ بالسيرٍ وراءَ كلِّ ناعقٍ ينعقُ بشعاراتٍ إسلاميّةٍ مزيّفة.»
و تابعَ في الصفحة ذاتها موضحاً: «و إنّ المُتتبعَ لجزئياتِ التاريخِ الإسلاميّ يخرجُ بنتائجَ و معالمَ واضحةٍ؛ منها أنْ الخطرَ الخارجيَّ مثل زحف المغول و الصليبيين ليسَ هو الخطرُ الأكبرُ و الأصعبُ! و إنْما الخطرُ الداخليّ الذي كان ينخرُ في جسمِ الدولةِ الإسلاميّة المتعاقبة هو الخطرُ الداهمُ، فثوراتُ الفِرقِ الباطنيّة من الخُرَّميّة إلى الحشاشين إلى القرامطة و الإسماعيلية الفاطميين أتعبَ جسمَ الدولة الإسلاميّة، و كذلك الفِرق المنحرفة الضالّة…. كلُّ هذا أتعبَ المسلمين و أدخلَهم في دوّامةٍ من الجدَلِ النظريّ و البُعدِ عن العملِ المثمر.».
• إذاً فالكتابُ ليس سرداً لأحداثِ التاريخ و جدولتِهـا زمنياً بقـدرِ ما هو دراسةٌ نقديّةٌ تحليليةٌ موضوعيّة تقدم رؤيةً لاستشرافِ المستقبلِ و صناعة التغيير.
..و بناءً على هذا التصدير، وجدتُ من الضرورةِ تقديمَ قراءةٍ واضحةٍ لمضمون الكتاب وفق رؤية مؤلّفه مُجلِّياً -بأسلوبي الخاص- رسالتَـه التي بثَّهـا في صفحاتِ الكتابِ و انسابتْ بين السطور، عسانا نُوفَّقُ لهذه المَهمة، لاعتقادي أنّ الكتابَ على أهميتِه و موضوعيّته يحتاجُ صياغةً جديدةً أنضجَ؛ تكونُ أكثرَ وضوحاً و دقّةً بحيثُ تُراعي تفاوتَ المستوى الثقافيّ و مداركَ الوعي لدى القرّاء، طبعاً هذا لا يُنقصُ من قيمة الكتابِ و لا يطعنُ بجهد مؤلّفه و رؤيته الجريئة؛ و إنّما من باب الوصول إلى الكمال، سيما و الكتابُ نُشرَ في فترة لم يكن هذا الفضاء المفتوح كما هو اليوم حيثُ كثُرَ المشوِّشون و المتفلسِفون و النُّعَّاقُ ممّن تحكمُهم الأجندات.
▪وصفُ الكتاب و مباحثُه
كتاب «حركة النفس الزكية؛ كيف نستفيدُ من أخطاء الماضي؟ لمؤلِّفـه محمّد العبده» من إصدارات (دار الأرقـم – برمنجهام/بريطانيا)، و الطبعةُ التي اعتمدتُ عليها في إعدادِ هذه القراءةِ هي الطبعةُ الثالثة الصادرة عام [1414هـ – 1993مـ] و هي “طبعة مزيدة و منقحة” عن الطبعتَين السابقتين -كما أُشيرَ في صفحتَي الغلاف-.
و قد جاء الكتاب بعدَ المقدمة في أربعـة فصـول؛ تضمّنَ كلُّ فصلٍ عدداً من المباحث.
و قبلَ استعراضِ فصولِ الكتاب و مباحثِه من المفيد تقديمُ موجزٍ عن حركة محمد النفس الزكيّة. حيثُ قامت في المدينة المنوّرة سنة [145هـ] ثورةٌ مضادّة على الدولة العباسيّة في عهد الخليفة العباسي الثاني «أبي جعفر المنصور» بقيادة (محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) المعروف بلقب «محمد النفس الزكية» لاشتهاره بالعلم و الزُّهد و الورع، و سانده أخوه (إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب) الذي خرج من البصرة. فهذه الثورة هي إحدى حركات الطالبيين من آلِ البيتِ على بني أميّةَ ثمّ بني العبّاس يريدون الإصلاحَ أو يطالبون بحقّهم في الحُكـم لاعتقادهـم ذلك. هذا اختصارٌ لِمَا جاء تفصيلُه في فصولِ الكتابِ وفقَ الآتي:
• الفصلُ الأول وضعَه المؤلف تحت عنوانٍ عريض «حركاتٌ لم يَستفدْ منها» و يقصد أنّ “محمّد النفس الزكية” لم يَستفد من تلك الحركاتِ التي سبقتْ حركتَه بتتبُّعِ مساراتِ أحداثِهـا و تحليلِ مواقفِهـا و استثمارِهـا في رسمِ ملامحِ إستراتيجيةِ حركتِه التغييرية الناشئة الثائرة على “أبي جعفر المنصور العباسيّ” و الاستدراك برأبِ الصدع إنْ حدثَ معه أيُّ خللّ في مستقبلِ أحداثِه، و قد جاء هذا الفصل على خمسةِ مباحـثَ استعرضَ فيها حركاتِ التغييرِ التي سبقتْ حركةَ النفس الزكية و هي: حركة الحسين بن علي بن أبي طالب عام[60 هـ]، وَ حركة أهل المدينة و موقعة الحَرّة عام [63 هـ]، وَ حركة عبد الرحمن بن الأشعث الكنديّ[81-82 هـ]، وَ حركة زيد بن علي بن الحسين[122هـ]، وَ العبّاسيّون[99 هـ].
• أمّا الفصلُ الثاني فقد دخلَ عبرَه إلى صلبِ موضوعـه الذي عَنونَه بـ «حركة النفس الزكية في المدينة -أي المنوّرة-»؛ و قد استهلَّه بتمهيـدٍ و أتبعَه بأربعة فصـول و هي بالتسلسل حسب ترتيب الكتاب: شخصيةُ قائد الحركة -محمّد النفس الزكيّة- مفصِّلاً القولَ في أثـر الوراثـة، و البيئة الثقافيّة التي كانت المنهـلَ الأوضحَ في تكوينـه الشخصيّ و النفسيّ و الفكريّ، ثمّ انتقلَ في المبحث الثاني من هذا الفصل إلى استدراجِ “أبي جعفر المنصور العباسيّ” له و كيف دفعَه بالمكرِ و الحيلة و الدهاء إلى الظهورِ بعد أنْ كان مختبئاً، و تابعَه في المبحث الثالث مُسهِباً في تصويرِ المعارك التي جرَتْ بينَه و بينَ جيش “أبي جعفر المنصور” و ما رافقَهـا من أحداث، و ختم فصلَه الثاني هذا بالمبحث الرابع لتقديم صورةٍ واضحةٍ عن حالِ المدينةِ المنوّرة بعدَ انتهاءِ المعارك و مقتل قائد الحركة (محمّد النفس الزكية-[93 – 145هـ]).
• و الفصل الثالث وضعَه المؤلِّف “العبده” تحت عنوان «إبراهيم يخرج في البصرة» و المرادُ (إبراهيم بن عبد الله بن الحسن [97 – 145 هـ])أخو محمد النفس الزكية؛ حيثُ راسلَه الأخيرُ للخروج في حركته و مساندتِه من البصرة بعدَ أنْ جمعَ له ما تيسرَ من الأتباع المؤيدين؛ و بذلك يكون “محمد النفس الزكية” قد تحرّكَ من المدينة المنوّرة بعدَ أنِ استعصى فيهـا، و أخوه “إبراهيم بن عبد الله بن الحسن” سيتحرّكُ من البصرة في العراق. و قد جاء هذا الفصل -الثالث- على شكل مبحثَين اثنين همـا: العلماءُ يؤيّدون إبراهيم، وَ قيادة بلا خبرة عسكريّة.
• و نصلُ الفصلَ الرابعَ من الكتاب و الذي يمثّـلُ ركيزةَ الكتاب و مقصدَه الأحكـمَ الذي يتضحُ من العنوان الذي اختاره المؤلِّفُ «أسبابُ الفشلِ و تقويمُ الحركة» ليُوصلَ رسالةَ الكتاب المتمثِّلة في التحليل التاريخيّ للأحداث و التقويمِ و استلهامِ الدروسِ و استثمارِهـا في المستقبل لرسمِ استراتيجياتِ التغيير، و قد جاء في أربعة مباحث تضمّنَت شرحَ الأسباب التي أفضت إلى إخفـاقِ تلكَ الحركةِ القويّة -و التي كادت أنْ تقضيَ على دولة بني العباس التي كانت في بداياتها- و قد ناصرها كثيرٌ من المسلمين و تعاطفوا معها و أيّدَها العلماءُ و قاتلوا معها وصولاً لتقويمهـا وهي حسب رؤية المؤلف: أسبابٌ سياسيّة، وَ أسبابٌ تتعلقُ بطبيعة العصر، وَ أسبابٌ اقتصاديّة، وَ أسبابٌ عسكريّة.
• و ختـم “العبده” كتابَـه بملحـق جريء واضح مختصر ضمّنَه أفكاراً لابد منهـا في أي قيـادة؛ سنتناولُـهـا بصورةٍ أوفى في المحور القادم -رسـالة الكتاب-، و لم ينسَ الكاتب “العبده” إثباتَ «ثبت المصادر» في نهاية مؤلَّفِـه؛ و التي بلغت ثلاثين مصـدراً و مرجِعاً.
▪رسالةُ الكتاب الفكريّة
وصلنا إلى المحور الأهـم محورِ تجليةِ رسالة المؤلّفِ في كتابه، و سأقتنصُ الرسالة من فصولِ الكتابِ و مباحثه حسبَ ورودها في الكتابِ لا حسب أهميتها إذ جميعُ الرسائلِ قيّمةٌ و تشكّلُ بمجموعهـا نسيجاً متكاملاً.
• الرسالة الأولى: أدواتُ التغيير: لصناعـةِ التغييـرِ لابـدَّ من المحاكمة العقليـة المنطقيّة للواقـع و ظروفِـه، و هذا يستدعي لِزاماً امتـلاكَ أدواتِ الوعي القائمـة على الدراسات الموضوعيّة وَ التخطيط المُحكَـم وَ رسـمِ استراتيجيات التغيير بعقليّـة جَمعيّـةٍ تعاونيّـةٍ تستوعبُ العقولَ و الكفاءاتِ الناضجةَ، و من جميعِ شرائحِ المجتمع -الأمّـة- المتفاعلـةَ مع قضيـة التغييـر ببُعده الحضـاريّ الناهـض، فالتغييرُ المثمـرُ لا يُصنـعُ بعقليّةٍ فرديّةٍ أحاديـة، و لا يُصنَعُ بأفكارِ قيادةٍ عاطفيّـة؛ و إنّمـا يحتـاجُ فريقـاً من المستشارين المتمكنين المُؤتمَنين، يتمُّ اختيارهم من القيادة وفقَ معاييرَ محددة (تتضمن مبادئ الخبرة والعدالة، والمقصود بالعدالة: العدالة ) لا تساهُلَ في أحدها لأنّ القضيةَ قضية أمّة و مجتمـعٍ لا قضيةَ فردٍ و “كرسي”.
• الرسالة الثانية: الشورى العلميّة التخصُّصيّة: لكي تحققَ حركةُ التغييـر أهدافَهـا تحتـاجُ القيـادةَ الواعيـةَ التي تحيطُ نفسَهـا بفريـق من المستشاريـن الأكفيـاء الأتقيـاء؛ و بالتالي فإنّ القيـادةَ الحكيمـةَ المتجرّدةَ عن حظوظِ النفسِ و وَخَـمِ “الكرسي” تُحي مبـدأ الشورى الذي هـو أحدُ أهمِّ مبادئ الإسـلام؛ شورى علميةٍ فكريّةٍ تخصُّصيّةٍ تستوعبُ كافـة مفاصـلِ التغيير و قضاياه (البيئة الاجتماعيّـة بقِيمها و وعيها و مستواها المعرفيّ، وَ البيئة الاقتصادية و الثروات، و البيئة العسكرية، و الاستخباراتية، و طبيعـة العلاقات الدوليـة ألياتهـا السياسية…)، و تسمو الشورى مكانـةً إذا فعَّلَتْهـا القيـادةُ و أخذتْ بهـا؛ نعـم أخـذتْ بهـا، سيمـا إذا كانَ المستشارون ممّـنَ حسُنَ اختيارُهـم فكانوا من الثابتين مبدأً، والمتمكنين رأياً و حكمةً، و المُحنَّكين تجرِبـةً، و المتخصِّصين علمـاً، و المقبولين مجتمعـاً، وَ المُنزَّهين أصلاً و تربيـةً فتمنعُهم أصولهم العائلية عن الفسادِ و الظلمِ و التهوّر.
• الرسالة الثالثة: معاييرُ القيـادة: للقيـادة الواعيـةِ الجديرةِ سماتٌ ترقى لأنْ تصلَ درجةَ المعايير التي لا يُستغنى عن واحـدٍ منهـا
1- المعيار الأول: الدهاء السياسيّ بما يحمله من النضجِ العقليّ وَ الحزمِ في مكانه وَ حُسنِ التدبير وَ سلامةٍ التحليل للأحداث و استشرافِ
المستقبل من خلالهـا، و استخدامِ الحيلة و المكر و الكتمان، و فتح قنوات التواصل لبناء شبكةٍ من التحالُفات السياسيّة و تقليص قائمة الخصوم بتحييدهم بما يخدم المشروعَ وفقَ “نظرية الممكن”، و اختراق الخصمِ بشراءِ ذمم -أو تحييد- عناصرِ قوتِه و قياداتِ مفاصلِه المؤثّرة.
2 – المعيار الثاني: قوة الشخصية و جرأة الخطابِ بحيثُ ينقلُ بقوةِ خطابِه و حكمةِ حديثِه و وضوحِ لهجتِـه هيبـةَ الحُكـمِ و نضجَ القيادةِ إلى الحاضنة و الأتباعِ المؤيدين؛ فليس كل شخص يصلحُ للقيـادة -و إنِ امتلكَ فكراً و وعيّاً- بل لابد من سمات في القيادة حتى تتحققَ الصورة الناضجةُ للحُكـم، فالقيادة -أو الحُكم- حسب تعبير الدكتور عبد الله النفيسي «نصفُه هيبـة!!» و هذا مما يعطي الاستقرارِ النفسيّ للأتباعِ و المؤيدين و الحاضنـة بمُجملِهـا.
3 – المعيار الثالث: امتلاك مهارة التفكير الاستخبارِيّ و بناءِ منظومة استخباراتيّة عمادُها المعلومات و الدراسات، و توظيفُهـا في حماية المشروع و بنائه، و كذلك توجيه القوة العسكريّة “ما يعرف اليوم بمصطلح الاستخبارات العسكريّة”.
4 – المعيار الرابع: امتلاك أدوات فنّ الإدارة و البحثِ عن موادرَ اقتصاديّةٍ غير مشروطة بحيثُ تنعكسُ -الإدارة و الاقتصاد- على مفاصلِ المشروع تنظيماً وَ ضبطاً وَ حيويّةً وَ استمراراً وَ تنميةً -على مستوى الكوادر و التوسّع الأُفقيّ على الأرض-.
5 – المعيار الخامس: امتلاكُ القيادةِ الحنكةَ العسكريّةَ التي تستجلبُ الفهمَ الصحيحَ لطبيعة الواقعِ و ظروفِه، و ابتكارَ الصيغِ الأنجعِ للتعامل معه، فلكلِّ واقعٍ ظروفٌ و آلياتٌ في التعامل؛ فما يصلحُ لواقعٍ عسكريّ في عصر ما قد لا يجدي في عصور لاحقة اذا غدا معروفاً مكشوفاً، لذلك من المثمرِ امتلاكُ القيادة لمهارة الابتكارِ الجريء على مستوى الحلول العسكريّة القائمةِ على عمادَي: الدراسات الاستخباراتيّة، وَ الشورى العسكريّة.
6 – المعيار السادس: ألّا تكونَ القيادةُ قد نشأت في بيئةٍ دينيةٍ مثاليّة من غير تجاربَ و تفاعلٍ مع المجتمعِ و إشكالياته و شرائحه و نماذجه؛ لأنّ الشخصيةَ الناشئةَ في تلك البيئة يغلبُ عليها الإغراقُ في حُسن الظنّ الذي قد يصلُ لدرجةِ البساطة المؤطَّرة في إطارهـا المثالي البعيدِ عن الانخراط في المجتمع و معاينةِ طوَامِّـه قبلَ جمالياتِه، و فساده قبلَ صلاحِه، و نقاط ضعفِه قبل قوته.. فالبيئةُ المثاليّة الهادئةُ لا تُخرِّجُ شخصيّةً قياديّةً، و لا تبني شخصيةً ناضجة تكونُ في موقع الاستشارة لأنّنا -بكل وضوح- إذا قبلنا بذلك نكونُ قد نسفنـا المعاييـرَ الخمسةَ السابقة جميعَها!
• الرسالة الرابعة: الثورةُ وسيلـةٌ لبناء مشروع التغيير:
و لإيضاحِ هذه الرسالة سأطرحُ السؤالَ الآتي: هل الثورةُ -أو حركة التغيير- غاية؟!
قطعاً ليستِ الثورةُ غايةً بمفهومها التقليديّ العاطفيّ أو حتى النفعي البرغماتي -كما سوَّقَه المُتثورنون-!!
نعم …ليست الثورةُ غايةً بل هي وسيلةٌ حركيّةٌ لبلوغِ هدفٍ كبيرٍ سامٍ في إطارٍ من الفكرِ الناضجِ و القِيمِ الأصيلة اللَّذَين يصونان العملَ الثوريّ عن الانحرافِ وَ الشطط وَ الغلو بمفهومه الإقصائيّ المريض، و معنى ذلك أنَّ الثورةَ لا تعدو كونهـا وسيلةً تفرضُهـا الظروفُ الواقعيّةُ القاسيةُ -سيما في واقع الأنظمة العربيّة الوظيفية الحاقدة على الشعوبِ أصلاً- لبلورةِ مشروعِ التغيير المأمولِ المحمّلِ بالرؤية الفكريّة الناهضة، و كلمة “مشروع” تستدعي متلازماتهـا المنطقية: (رؤية المشروع العامة – أهداف المشروع و قِيمـه – رسم الإستراتيجيات و أبعادهـا المرحلية – الخطط تبعـاً لكل مرحلة – آليات التنفيـذ و الإدارة…) تضافُ إلى هذه المتلازمات المتلازمـةُ الأنضجُ و هي (إعادةُ المراجعةِ و التقويمِ و التعديل و التصويب)، و بهذا المعنى تصبحُ “الثورةُ” مرحلةً تمهيديّةً حركيّةً متقدمةً لتحريكِ المشروع الذي سيتجاوزهـا حُكمـاً لتقعيدِ أرضيةِ البنية التحتيّة لقِيمِ المشروعِ و أهدافِـه و ذلكَ بالتوجُّه نحوَ الإنسانِ و إحيائه نفسيّاً و قِيمياً و معرفيّاً و رِساليّاً ليختارَ التخصصَ العلميّ الذي يخدمُ مشروعَ التغيير حضاريّـاً، وصولاً لعمليةِ الإحصاءِ و تنظيمٍ هذا المخزون التخصصيّ من الكوادر البشريّة في مساقات التطوير و الإنجاز..
و بعودة بسيطة لثورات الربيع العربيّ خلال السنوات السابقة نجدُ أنَّ البعضَ -و حتى الآن- لا يفهمُ من الثورةِ للأسفِ إلّا الشعاراتِ و الخطابات وَ الرقص و الأغنيات بل و يسعى جهدَه للمحافظة على هذه الطقوس و تكريسها لأنهـا وسيلةُ ارتزاقٍ يُورِّي بها عن الأجندة التي يتبعُ لها! يضافُ إلى ذلك إقصاءُ الكوادرِ الوطنيّة الطموحة ممّن يمتلكون أدواتِ مشروعِ التغيير، و بذلك يكون الانقلابُ على الثورة و مشروع التغيير معاً.
• الرسالة الخامسة: فهـمُ طبيعة الشعوب “علم النفس الاجتماعيّ”: إذا كان مشروع التغيير الذي وسيلتُه المبدئيّة الثورةُ فإنّ هدفَه الإستراتيجيَّ الأبعدَ هو بناءُ الإنسانِ -كما قدّمنا-؛ هذا الإنسانُ الذي يُشكّلُ البيئةَ الاجتماعية لأي ثورةٍ و هو حاضنتُها و مادةُ حركتِها، لذلك لا نجاحَ لثورةٍ تمتلكُ رؤيةً لمشروعِ تغيير إلّا بتوثيقِ صلتِها مع حاضنتِها الاجتماعيّة و شعوبهـا و تعهُدِهـا بالإيضاحِ و مدِّ جسورِ التواصُلِ المفضيةِ لإرساء أرضيةِ من التفاعل المثمر نحو التغيير؛ بحيث يصبحُ مشروعُ التغيير قضيّةً تسري في وجدان و فكرِ المجتمع حتى يصلَ درجةَ الانتماء الحقيقيّ الحركيّ للمشروعِ و قيادتِه؛ فيدعمَه و يتفانى عملاً و تضحيةً و ثباتاً و صبراً في سبيله.
و إنَّ الوصولَ إلى المجتمعِ و بناءِ حركيّتِه هو مشروعٌ إستراتيجيّ بحدِّ ذاته و نجاحُه هو نجاحٌ و قوّةٌ لمشروع التغيير العام فيستمدُ من قوّة الحاضنة قوتَه، ذلك أنّ الشعوبَ لا تتفاعلُ مع القيادةِ الغامضةِ الضعيفة الباحثةِ عن مصالحها الخاصة على حسابِ حاضنتهـا لذلك ترى الشعوبَ أكثرَ ميلاً نحو الحكم القائم المستقر الذي له بنيتُه و نظامُه -و إن كان ظالماً- و في ذلك يقول “العبده”[صـ123]: «فلابدّ للمطالبةِ القويّة -كما عبّر عنها ابن خلدون- من الاستنادِ إلى قاعدةٍ شعبيّةٍ عريضة تؤمنُ بأهدافِ الحركةِ إيماناً قويّاً».
و لا يستقيمُ ذلك إلّا بتمتينِ الجبهة الداخليّة و مواجهةِ الأخطارِ التي تعرضُ فيها من خلال اليقظة التامّة و تتبُّعِ عناصرِ الطابورِ الخامس المنتشرِ ضمنِ الحاضنة الاجتماعيّة -الشعبيّة- نافثاً سمومَ غدرِه و تشويشه و أفكاره السلبيّة من قبيلِ أنّ الثورات و حركات التغيير لا فائدةَ منها و أنهـا تعبٌ و تضحيةٌ من غير نتائجَ حسيّة و ما هي إلا دماء و سجون و موت… ممّا يعودُ على المشروعِ بالتعبِ و القصور، لذلك لا غنى عن محاربةِ هذا الطابور الخامس على مستويَي الحاضنة الاجتماعيّة و القيادةِ -على السواء- من مثبطين و خونة و عملاء و استئصالِهم؛ وكلنا رأى كيفَ انقلبَ هذا الفريقُ خلال ثورات الربيع العربيّ فكانوا رؤرسَ الثورات المضادّة! و ما ذلك إلّا لضعفِ القيادات و قصورها الفكريّ و التنظيميّ فترى البساطة و الارتجالَ في أغلب قرارتها و سلوكياتهـا الإدارية البعيدة عن الرؤية الواضحة و التخطيط السليم -طبعاً لا أتحدثُ عن القيادات ذات الارتباطات الموجّهة فهذا له حديث آخر؛ و إنما أقصدُ أغلبَ القيادات العفويّة-.
• الرسالة السادسة: علماءُ الدين و المشايخ و أهليْة التغيير:
ربما تكونُ هذه الرسالةُ جريئةً بعضَ الشيء لكنّه واقعٌ وجبَ توضيحُه و قد عايناه جليّاً خلالَ ثورات الربيع العربيّ، حيثُ يعتقدُ بعضُ طلبةِ العلم و المشايخ -لا أُعمِّم- أنّه لمجردِ تبحُرهم في بطونِ أمّهاتِ كتبِ التراثِ الراقي من “نحوٍ و فقهٍ و حديث و أصولٍ….” و صرفِ أوقاتِهم بينَ الكتبِ يعطيهم الأهليّةَ و الأحقيّةَ لتصدُّرِ قيادةِ مشروعِ التغيير -أو الثورة- و ربمـا قيادة الأمة سياسياً أو الجيوش عسكريّاً حتى و لو لم تكنْ لهم تجاربُ عمليّةٌ أو معرفةٌ سياسية، بل حتى و إنْ جهلوا مهارات فنّ الإدارةِ و لم يسعَوا لسلوكِ دربِ التطوير لإمكانياتهم و شخصياتهم و توسيع آفاقِ معارفهم في علومِ الكونِ و السياسة و الاجتماع و الاقتصاد و العسكرة؛ وصلَ ببعضهم حتى لو لم يكونوا يملكون رؤيةً فكريّةً في الأصل!! و بعبارة أخرى عقلية مشيخية تقليدية بسيطة رسَّختْها الأنظمةُ الوظيفيّةُ -أذرعُ دولِ الاستعمار- خلال القرن الماضي بعد سقوط الحكم العثمانيّ و مازلنا نعاني من جمودِ و بساطة تلك الشريحة التي كانت -عبر عصور سلفَت- هي العصبَ المحرّك و العقلَ الأنضجَ في توجيه المجتمعِ و بنائه و دفعِه نحو التطوير؛ بل كان أغلبُهم علماءَ موسوعيين جمعوا علومَ الشريعةِ إلى العلوم الكونيّة فكانوا روّادَ الحضارة.
مع التأكيد أنّ مناهجَ كليات الشريعة في دُولنا العربية لا تصنعُ عالمـاً مكتملَ الشخصية ناضجَ الفكر متينَ العلم؛ بل إنّ قضيةَ البناء الفِكرِيّ بمفهومه النهضويّ على مستوى الأمّة لا وجودَ لها في تلك المناهج و المؤسسات المُسيَّسة، و إذا وجدتَ عالِماً أو طالبَ علمٍ قد امتلكَ الفكرَ المنتِجَ فيكون ذلك -بعد توفيق الله- بجُهده الشخصيّ خارجَ صندوق الجامعة عبر قراءاتِه الخاصة و ملازمتِه لطبقةٍ سابقةٍ من العلماء و المفكّرين الأجلّاء ممّن تربَوا في مدارس علماء ربّانيين حركيين من علماء النهضة أمثال ( بدر الدين الحسَني وَ طاهر الجزائريّ وَ محمد الطاهر بن عاشور وَ عبد الحميد بن باديس وَ حسن حبنكة الميدانيّ وَ محمد سعيد النعسان وَ محمد الحامد و مصطفى السباعيّ و عبد الفتاح أبو غدة وَ محمود شيت خطّاب وَ أبو الحسن الندويّ وَ محمد الغزاليّ و يوسف القرضاويّ…)
• و اختصاراً أقولُ إنّ استغراقَ طالبِ العلم في كتب التراث المنهجيّ و انعزالَه عن حركة المجتمع أولاً و حركةِ العالَم المحيطِ و تجاذباته ثانياً، و قَصْرَ اهتمامِه على فنونِ العلوم الشرعية دون البناء الفكريّ الحركيّ لن يقدِّمَ للأمةِ جديداً في هذا الواقع الذي لا يقبلُ إلّا امتلاكَ إرادة التحدي؛ واقعٍ يضعُ كوادرَ الأمّـة و شبابَها -فضلاً عن طلبة العلم و العلماء- أمامَ مسـؤوليـةٍ جِـدُّ عظيمة تحـدوهـم نحـوَ العمـلِ المثمرِ عـلى بصيـرةٍ و عـلمٍ بعدَ قـراءة التـاريـخ من مصادرِه و استيعابِ مـراحـلِـه؛ عمـلٍ يتماشـى و صعـوبـة المرحلة التي شعارها طمسُ كلِّ جميلٍ راقٍ من حضـارتِنا و اسـتهدافِ رجـالِها من ذوي الفِكر و العلمِ و الريادة و الأصالة، و الحقيقةُ التاريخية تثبتُ أنّ العلماء الذين أثَّروا في الأمّة و أثْرَوهـا همُ الذين بلغوا سنامَ الفكرِ الحضاريّ و التربيةِ الرِّساليّة.
▪و أختمُ مؤكِّداً أنَّ الكتابَ يعتبرُ بحثـاً قيّمـاً جـريئاً لما يتضمَّنـه من تحليلٍ تاريخيّ منطقيّ موضوعيّ و دروسٍ و أفكارٍ ثمينةٍ نحـوَ إحداثِ أي تغييرٍ أو إنجـازِ أهدافِ أيِّ ثـورة على واقعٍ فاسـد و أنظمـةٍ عليلةٍ مستبِدّة؛ لكنْ يجبُ أنْ يكونَ قارئُ الكتابِ واعيَـاً و من أصحابِ المحاكمـة المنطقيّـة السديدة و مُلمّاً بأحداثِ التاريخ و المرحلـة التي يتحدَّثُ عنـهـا المؤلِّفُ حتى يضعَ التصوراتِ في مكانهـا؛ إذْ قد تُشكِلُ بعضُ العبارات المحمّلةِ بالتصورات و الأفكار الجريئة التي يطرحُهـا المؤلِّفُ فيفهمُـها القارئُ البسيطُ على غير مرادِ المؤلِّف و رسالـتِه المبثوثـةِ في صفحات الكتاب، و هنـا أودُّ تقديـمَ نصيحـةٍ قبل قراءة هذا الكتاب للقارئ الكريم و خصوصـاً شريحـة الشبـاب الناهضِ الواعي أنْ يسبقَـه بقراءة كتابِ المؤرِّخ المفكّر (د. شوقي أبو خليل -رحمه الله- المعنون بـ (عواملُ النصرِ و الهزيمةِ عبرَ تاريخنـا الإسـلاميّ) من إصدارات دار الفكـر بدمشـق؛ و حبذا قراءة الكتاب بطبعتـة الأخيـرة ففيه إضافات و استدراكات و ذلك أنّ الدكتور “شوقي” أكثرُ ضبطاً في العبارة و وضوحاً في الرؤية بحيثُ يزول معهمـا أيُّ لبسٍ فضلاً عن تمكُّنٍ في العرض و منهجيـةٍ في التأريخ و التحليلِ و منطقيـةِ التفكيـر ، و بعد الانتهـاء يتوجـه القارئُ الشابُّ لقراءة كتاب مؤلِّفنـا الكريم «محمد العبده -حفظه الله-» الذي قدمنـا قراءتَنـا حولَـه؛ فشبابنـا بحاجة لتكثيفِ وجباتِ القراءةِ الواعية التي تثمرُ فكراً و إحاطةً و تمكُّناً في واقعٍ حرجٍ من مراحل نهوضِ الأمّة يستدعي من الشبابِ جذبَ أدواتِ التغيير و الانخراطِ في معادلة التحدي بعد ثورات الربيع العربيّ و طوفانِ العزّة و الحربِ العالميّة المفتوحةِ على الفِطرة و الأسرةِ و الأجيالِ مصداقاً لقول العبده [صـ9ـ] «و إنّ اللحظات الحرجة التي تمرُّ على الأمّةِ هي لحظاتُ التحدي عندما تشعرُ الأمّةُ أنّها في خطرٍ داهمٍ و لا بدّ أنْ تكونَ بمستوى هذا التحدي، كمـا أنّ الخطرَ الداخليّ يجبُ أنْ يستنفرَ القُوى المذخورةَ لإصلاحِ الأوضاعِ الفاسدة.»