▪️تصديـر:
عندما تُذكَرُ مجزرةُ حماة تقفزُ مباشرةً إلى ذاكرةِ المُستذكِرين في المجالسِ و اللقاءاتِ و حتى المحاضرات الفكريّة المجزرةُ الكبرى التي حدثتْ عام [1982م]، غيرَ أنّ الذي غابَ -أو لا تتمّ الإشارة إليه إلّا نادراً- هو حدوثُ سلسلةٍ من المجازرِ الرهيبةِ سبقتِ المجزرةَ الكبرى على امتدادِ ثلاثِ سنوات تقدّمتْ عام [1982م]. فقد قامت مليشياتُ أسد الأب و أخيه المجرم الحاقد “رفعت أسد” بمجازرَ متعددةٍ بدأها منذ عام [1980م] و خلال عام [1981م] حتى جاءتِ المجزرةُ الكبرى عام [1982م].
و في هذا الفصـل سأحاولُ تقديمَ الصـورةِ الأوضـح حولَ تلك المجزرة و خلفياتِهـا بقراءةٍ فكريّةٍ يجبُ أنْ يستحضرَهـا كلُّ سوريّ؛ فضلاً عن المفكّرين و السياسيين و نُخبِ التغيير، و ينقلوهـا لأبنائهم و أجيالنـا و شبابنـا و في أيّ نقطةٍ من دول العالَـم كانت إقامتُهـم، لأنّ التاريخَ هو وجدانُ الأمّـةِ و باعثُهـا نحو التغييرِ باستلهـامِ الدروس و تحليلِ المواقف و معرفةِ ما وراءَ الحدثِ من تفاصيلَ و كواليسَ مغيّبةٍ هو المقصـدُ الأدقُّ الأنضجُ من قراءةِ التاريخ لا القراءة ذاتُهـا؛ و ذلك لاستثماره في عملية بناءِ الوعي و إحياءِ نوازعِ التغييـر في الفكـرِ و الوجدان، و ما يليه من رسم إستراتيجيات التغييـر بعد امتلاكِ أدواتِـه؛ و التي يأتي في مقدمتـها العلـمُ و المعرفـةُ و القراءاتُ السليمةُ الناضحةُ لحركة التاريخ قراءةً فكريّةً منطقيةً دقيقة تضعُ الحدثَ وَ الموقفَ التاريخيّ في سياقِـه الصحيح فكـراً و مآلاً ليخلصَ إلى رسمِ الإستراتيجية المناسبة لتجاوزه و صناعة التغيير المثمر.
▪️ قـرارُ المجـزرةِ الكبرى :
– إنّ القرارَ الدمويّ بإنفاذِ مجزرةِ حماةَ الكبرى كان قد تمّ اتخاذُه فعليّاً صادراً عن المجرم (حافظ أسد) منذ عام [1980م] و ليس عام [1982م] كما هو شائعٌ بين عامة السوريين بل و حتى بين شريحةٍ واسعةٍ من الحمَويين أنفسِهم!
حيثُ بدأ المجرمان “حافظ و رفعت” تنفيذَ ذلك القرارِ بغطاءٍ دُوَليّ كامل وفقَ خُطةِ إبادةٍ جماعيةٍ مدروسةٍ على مراحـل:
➖ المرحلةُ الأولى : استهدافُ وجهاءِ المدينة و أعيانِها و رجالِها و نُخَبِها العُلمائيّة وَ العلميّةِ و الثقافيّة، و مرجعياتِها المجتمعية و قاماتهـا الوطنيـةِ، و قد كان ذلك عام [1980م]، و لا أبالغُ إنْ قلتُ: إنّ هذا الحدثَ كانَ من أشدِّ الممارساتِ وقْعاً و أعظمِها إجراماً؛ إذْ كانتِ بدايةُ الإجرامِ و الإبادةِ باستهدافِ المرجعيّات العلميةِ و الفكريةِ و الاجتماعيةِ الوطنيّة!! و سنتابعُ في تحليلِ هذه المرحلةِ وَ قراءتِهـا الفكريّة و إشباعِهـا في المحور الأخير.
➖ المرحلةُ الثانية: نزولُ فِرقِ و وحداتِ الجيش العسكرية و مليشيات سرايا المجرم “رفعت أسد” المعروفة بـ (سرايا الدفاع) و انتشارُهم في شوارع المدينة لإذلالِ الناسِ المارّةِ ناشرين الرعبَ عبرَ آلةِ الحقدِ الطائفيّ بالحديد و النّار، مع تطويقِ عدّة أحياء من المدينة، و ارتكابِ جرائمَ عبرَ إعداماتٍ ميدانيةٍ مركِّزين بصورةٍ رئيسةٍ على شبابِها و رجالها؛ فكانت مجزرةُ “حي بستان السعادة” وَ مجزرة “الملعب البلدي” وَ مجزرة “حي وادي الحوارنة” و غيرها من الأحياء الحمويّة، و كان ذلك عام [1981م]، أي في السَّنة التي سبقت المجزرة الكبرى.
➖ المرحلةُ الثالثة: المجزرة الكبرى في الثاني من شهر شباط [1982م]؛ و التي استمرتْ لـ سبعةٍ و عشرين [27] يوماً من الإبادةِ الجماعيةِ لشعبٍ بأكملِه –رجالِه و نسائِه و شِيبه و شبابِه و أطفالِه– بقصفِ الأحياءِ و المنازلِ و الدورِ تدميرِها على رؤوس ساكنيها رجالاً و نساءً و شيوخاً و أطفالاً، و ارتكابِ الجرائم و التفجيرات، و تدميرِ المآذنِ و الجوامع؛ وصلَ بهم الإجرامُ لاستخدام الألغام البحريّة عندمـا فجّروا ذلك المعلَمَ التاريخيّ الأقدمَ “الجامع الأعلى الكبيـر” في حي المدينة غربي قلعة حمـاة، ثمّ أتبعوه بنسفِ الكنيسةِ المميزة بلوحاتها الفنية و زخارفهـا المنقوشة في قبتها و أعمدتها و جدران قناطرهـا في حي المدينة أيضاً [1].
لقد نفّـذَ المجرمان سياسةَ الإفناءِ التام مع تركيزٍ مدروسٍ على شريحةِ الشباب من خلالِ الإعداماتِ الميدانيّةِ لعشَراتِ الآلافِ من شباب المدينة و يافعيهـا و رجالِها؛ فلم ينجُ إلّا مَن قُدّرتْ له الحياةُ ليكونَ شاهداً على جرائمَ تُظهرُ عِظَمَ حجمِ ما تختزنُه هذه النفوسُ الحاقدةُ من قذارةِ الإجرامِ و دمويةِ الوحوشِ و خِسّةِ الطبع..
• و ممّا يثبتُ أنّ القرارَ قد صدرَ حقيقةً بسحقِ مدينة حماة منذ عام [1980م] –كما أسلفتُ– ورودُ تسريباتٍ قاءَها المجرم “رفعت أسد” و التي كان يردِّدُها قبل سنوات من ارتكاب المجزرة الكبرى [1982م]، منها قولـه:
((سأدمِّرُ مدينةَ حماة و أحوِّلها إلى حديقة عامة …!!))
و قولُه أيضاً: ((سأجعلُ المؤرِّخين يكتبون أنّه كان في سورية مدينةٌ اسمُها حماة …!!))
و كذلك قوله: ((سأجعلُ حماة عبرةً للشعبِ السوريّ كلّه!!))
و غيرهـا الكثير من كلام الحقدِ و الدمويَـة من تلك العصابة التي سرقتْ سوريةَ الشّام و اغتصبتِ الحُكـمَ و شوهتْ أصالتَهـا و تراثَهـا و سحقتْ حيواتِها العلميّةَ و السياسيّةَ و الفكريّةَ و الثقافيّة و الاقتصاديـةَ، و نالـت من رموزهـا و أعلامِها و وجهاء عوائلهـا.
▪️ المجازرُ التي سبقت المجزرة الكبرى
• إذاً لقد بقيتْ حماة تحت حدٍّ مِقصلة المجازرِ و الحقد الطائفيّ الدفين على مر ثلاثِ سنوات متعاقبةٍ مهّدَتْ لتنفيذِ المخططِ الحاقدِ بالمجزرةِ الكبرى عام [1982م]، فما هي أبرزُ المجازر التي سبقتِ المجزرةَ الكبرى، و مهَّدتْ لاستكمال مخطط الإبادة:
➖ المجزرةُ الأولى: مجزرة شهر نيسان من عام [1980م] و أعتقدُ جازماً أنّ هذه المجزرةَ هي المجزرةُ الأهمُّ مجتمعيّاً، و الأعمقُ أثراً في بِنيـة الحياة الحمويّة من بينِ سلسلةِ المجازرِ اللاحقة و السابقة -على دمويّتها- لأسباب وجيهةٍ -سأذكرها في المحور الأخير من هذا الفصل-؛ حيثُ كانت سمومُ الأحقادِ الدمويّةِ في هذه المجزرةِ الدقيقةِ الاختيارِ، و المدروسةِ بعنايةٍ و ترتيبٍ و بضوءٍ أخضرَ دوليٍّ للمجرمَينِ حافظ و أخيه -كما بقية المجازر- مصوّبةً نحوَ وجهاءِ المجتمعِ و قاماتِه الفكريّةِ و العلميّةِ و المرجعيّة بأنواعها الوطنيّة و المجتمعيّة و الدينيّة، فاعتقلوا وجهاءَ البلدِ و أعيانَها و رجالَها من أماكنِ عملِهم أو منازلهم، و اقتادوهم إلى مسالخِهم السوداء الحاقدة، و عذَّبوهم حتى الموتِ اغتيالاً، ثمّ رمَوا جثثَهم في شوارع مدينة حماة و أزقتِها على مرأى الناس و العامّة، و لَكـم أنّ تتخيّلـوا مدى هذا الإجرام و رهبةَ الموقف… و أذكرُ من تلك القامات الأعـلام:
– الشهيد الطبيب الدكتور عمر الشيشكلي: نقيبُ أطباءِ العيون في سورية و رئيس جمعيّة أطباء العيون، حيثُ اعتقلوه من داره فجراً و اقتادوه و عذّبوه فسمَلُوا عينَيه، و قطَّعوا أوصالَ جسدِه حتى الموت -رحمه الله-، ثمّ رمَوا بجثته التي عُثرَ عليها على طريق محردة إلى الغرب من مدينة حماة؛ فاستُشهد عن عمرٍِ لم يتجاوزِ الخامسةَ و الأربعين [45] عاماً –رحمه الله–، ثمّ جاؤوا بكل خِسةٍ فسرقوا مقتنياتِ عيادته الطبيّة و هدموها!
– الشهيد الطبيب الدكتور عبد القادر قندقجي: جرّاحُ العظمية الأشهر في زمانه، حيثُ اعتقلوه كذلك من مستشفاه الخاص ”مستشفى الحكمة” في حي جنوب الثكنة، و عادوا بجثته هامدةً بعد اغتيالِه مدفوعين بحقدهم الأسود على كوادرِ البلد و نُخبها و عقولِها.
– الشهيد الزعيم الوطنيّ المهندس خضر الشيشكليّ: زعيمُ الكتلة الوطنيّة و صاحبُ بيت الأمة، وجيهُ حماةَ الأول في عصرِه، و هو عمُّ “الدكتور الشهيد عمر الشيشكليّ”، و اللافت أنّ عمرَ “المهندس خضر” يوم اغتيالِه كان قد ناهزَ الثانيةَ و الثمانين [82] عاماً، فلم تشفعْ له شَيبتُه و تقدّمُ عُمُرِه من إحراقه بمادة “الأسيد” الكيميائية، ثمّ هدموا منزلَه بعد سرقة كافة مقتنياته!!!
– الشهيد الدكتور طاهر حداد: جرّاح المسالك البـوليٍة الأمهـر.
– الشهيد الدكتور حسين خلوف: طبيب الأسنان الذي تمّ اعتقاله من عيادِته في منطقة الحاضر الكبير.
– الشهيد الوجيه السيد أحمد قصاب باشي مع عددٍ من وجهاءِ عائلته المقتدرة مالياً و ذات الحضور المجتمعيّ يومئذٍ، حيثُ وُجدت جثة السيد أحمد في منطقة “جسر باب الهوى” و قد قُطعت أصابُعه و اقتُلعت أظافرُه، و قد استشهدَ و له من العمرِ يومها قرابة الخامسة و الخمسين [55] عاماً.
– الشهيد الوجيه أبو إياد الأعوج: المنحدرِ من عائلة حمويّةٍ أصيلة و التي تعتبرُ من أقدم عوائل مدينة حماة كما يذكرُ المؤرِّخون ..
• و هنا أجدني مضطراً عندَ بيانِ التسلسلِ التاريخيّ لجرائم أسد و داعميه إلى إضاءة الحقيقةِ التاريخية الآتية:
إنّ جرائمَ أسد الأب و أخيه المجرم رفعت لم تقتصر عام [1980م] على مدينة حماة فحسب؛ بلِ امتدت لتشملَ المجازرَ التالية من العام ذاتِه و على امتدادِ الترابِ السوريّ:
– مجزرة جسر الشغور في شهر آذار.
– مجزرة قرية كنصفرة بجبل الزاوية من ريف إدلب الجنوبي في شهر آذار.
– مجزرة سجن تدمر في شهر حزيران.
– مجزرة تدمر النسائية في كانون الأول و التي قُتلت فيها أمهاتُ المعتقلين و المطلوبين و زوجاتُهم و أخواتُهم -عليهنّ رحماتُ الله-.
– مجازر حلب: و هي مجزرة سوق الأحد في شهر تموز، و مجزرَتا حي المشارقة يوم العيد وَ مجزرة حي بستان القصر في شهر آب.
– مجزرة قرية سرمدا في ريف إدلب الشماليّ في شهر تموز.
➖ مجزرة حماة الثانية: و التي تمتْ في العام التالي للمجزرة الأولى أي عام [1981 م] من شهر كانون الأول و استمرت ثمانيةَ أيام، و هي في الحقيقةِ سلسلةُ مجازرَ و ليست مجزرةً واحدةً، حيثُ قامت وحداتٌ من القوات الخاصة و الجيش و اللواء [47] و سرايا المجرم رفعت بإعدام ما يزيدُ على الـثلاثمئةٍ و خمسة و ثلاثين [335] شابّاً من الذكورِ الشبابِ حصراً في حيٍّ واحد و هو حي “بستان السعادة وسط مدينة حماة و المتاخم لقلعتِهـا من جهتها الشرقية”؛ عدا عن الجرحى الذين تجاوزَ عددُهم الألفَ [1000] جريحٍ و ذلك برصاص مجرمي مليشيا القوات الخاصة و اللواء 47، و قد كان ذلك قبل صلاة يوم الجمعة من ذلك الشهر؛ حيثُ طرقَ المجرِمون أبوابَ المنازل وَ الدورِ و أخرجوا جميعَ شبابِ الحي طالبين بطاقاتِ هواياتِهم الشخصية –و بعضهم كان قد أنهى استحمامَه لتوّه استعداداً لصلاة الجمعة–، و اقتادُوهم بالبنادق إلى محيط جامع (نور الدين الشهيد/النوريّ) و أداروا وجوهَهم إلى جدران الجامع الخارجيةِ، و فتحوا نيران رشاشاتِهم و بنادقَهم رشّاً -لا دِراكاً- دونَ تمييزٍ على الشباب جميعاً و دون سؤال! و عندما سمعَ أهلُ الحيّ الرصاصَ هبّوا مذعورين من منازلِهم لرؤيةِ أبنائهم؛ فكان مصيرُ كلِّ مَنْ وصلَ من الآباء قبلَ مغادرةِ مليشياتِ الحقدِ لمكانِ الجريمةِ يُصفُّونَه رشّاً بدمٍ بارد فيرتمي جثّةً هامدةً فوقَ ابنه الشهيد، منهم الشهيد (ص.ب) و والدُه حيث قَتلوا الأبَ و ابنَه معاً! و حسب متابعتي أجزمُ أنَّه لم ينجُ من مجزرة “حي بستان السعادة” -أو بستان التعاسة كما صار يُسمّيه لاحقاً الحمويون- ممن أُخرجوا للإعدام في محيط جامع النوري إلا شابّ واحد هو المدعو (ح ن) و قد التقيتُه مرات و شرح لي تفاصيلَ عن هول تلك الجريمة و كيف نجا هو بالذات[2].
كما قامت مليشياتُ سرايا الدفاع من العام ذاته [1981م] بالتضييق على الناسِ و ضربِهم في الشوارع بالعصي و الكرابيج، و إرغامِهم للسجودِ لصور زعيم عصابتهم “حافظ”، بل وصلَ بهم الأمرُ لتفجير ما يزيد على العشرين [20] منزلاً لمجرد أيّ وشاية خلال شهر كانون الأول من ذلك العام!! و قد ارتكبوا مجازرَ مؤلمةً في أحياء (وادي الحوارنة و جنوب الملعب البلديّ و سوق الشجرة … و غيرها) مستهدفين بصورة رئيسة الشبابَ المتعلِّمَ و أصحابَ الشهادات الأكاديمية.
➖ المجزرة الشهيرةُ الكبرى التي حدثت عام [1982م] و التي لاتزال ذكرياتُها المؤلمةُ ماثلةً في ذاكرة الحمويين الذين درجوا على تسميتها بـ (أحداث الثمانينات أو الأحداث)، فلا يوجدُ بيتٌ في حماة سَلِمَ من أحقادِهم حيثُ أصدرَ “حافظ” المجرم أوامرَه باستباحةِ المدينةِ استباحةً مطلقةً، و إبادتِها عن آخرها.. و الحديثُ عنها يطول و يطول حتى أنهم أحرقوا الناسَ و هم أحياء في سابقةٍ خطيرةٍ من الدموية المتوغلة، و بقيتْ تبعاتُها لعشرِ سنوات لاحقةٍ بعد انسحاب المليشيات من المدينة؛ حيثُ بقيَ المجرم (يحيى زيدان –رئيس المخابرات العسكرية في حماة) يمارسُ إجرامَه على المعتقلين الحمويين خلالَ حملاتِ التعذيب، ثمّ يقومُ برمي جثثِ الشهداء المعتقلين الذين قضَوا تحتَ التعذيب ليلاً على باب المستشفى الوطنيّ في “حي المساكن – جنوب المدينة”، و قد كان المجرمُ “زيدان” هذا مُطلقَ اليد في حماة بعد مجزرة [1982م] بتفويضٍ كامل مفتوحٍ من رأس الإجرام حافظ أسد؛ حتى أنه كان يُوقّعُ و يختمُ أوامرَه المخابراتية باسم (ملك حماة) في صورة من صور الغطرسة و الاستكبار لم يشهدهـا التاريخ الحديث إلا عنـدَ هذه العصابة الطائفيـة المتوغلة في الحقدِ و الدمويّة.
▪️ قراءةٌ في حقيقةِ المجزرة “ما وراء المجزرة”
• واهمٌ مَن يعتقدُ أنّ جرائمَ وَ مجازرَ الثمانينيات في حماة و غيرها في حلب و جبل الزاوية و جسر الشغور و دمشق و حتى اللاذقية جاءت هكذا عفْواً دونَ دراسةٍ و تخطيطٍ و تأييدٍ دوليّ كامل، لكن ما يعنيني الآن حتى أبقى في سياق فكرة المقال في هذا المحور تحديداً -و الذي فيه عصارةُ جوهرِ الفكرة– هو تحليلُ مراحلِ المجزرة التي استمرت على امتداد سنواتٍ ثلاث، لأطرحَ التساؤلات المنطقية الآتية:
– لماذا بدأتِ المجزرةُ في عام [1980م]، و تابعَها بسلسلةِ مجازرَ في العام التالي الذي سبقَ المجزرة [1981م]، لِيختمَها بمجزرة الإبادة الجماعية الكبرى بحقِّ مدينةٍ كاملـة عام [1982]؟!!
– أمَا كان بإمكانِ مُجرمي أسدَ و داعميه الانقضاضُ مباشرةً بمجزرةِ إبادةٍ جماعيّةٍ كبرى دون “مطمطةٍ” في الوقتِ و السنوات، فيُنهي الأمرَ و يبيدُ الشعبَ، و يسلبُ و ينهبُ و يحرقُ و يمزِّق نسيجَ المجتمع و يسرقُ تراثَ و آثارَ و مخطوطات المدينة؟!
– لماذا قامت راجماتُ صواريخِ أسد و طائراتُه، و ألويةُ المدفعية بتدميرِ الأحياء التاريخيّة العريقة دماراً تاماً كأحياءِ: “الكيلانيّة و الزنبقي و العصيدة و الأميريّة و سوق الشجرة و بين الحَيرَين و الباروديّة …..” طالما أنه يستطيعُ دخولَ المدينة بأرتالِه؛ سيما و قد كانت له جرائمُ و تطويقاتٌ قبلَ المجزرة الكبرى -كما أوضحتُ أعلاه-؟!
• الجواب باختصار :
➖ كانت خطةُ الإبادةِ مدروسةً -كما أسلفتُ- فبدأها بالخطوة الأهمِّ الأصعبِ و هي البحثُ عن مرجعياتِ المجتمعِ الحمَويّ الاجتماعيّةِ و العلميةِ و الفكريّةِ و الدِّينيّةِ و جميعِ الشخصياتِ الاعتباريةِ الوجاهيّةِ و القاماتِ الوطنيّةِ و رؤوسِ و أعمدة العوائل الأصيلة، فاغتالوها و نكّلوا بها و أظهروا طوامّ أحقادِهم في أجسادِ و نفوسِ رجالِ المدينة و قاماتِها الوطنيّة، لأنّ القضاءَ على المرجعياتِ الموجِّهةِ لأي مجتمعٍ سيبدّدُ القرارَ، و يزيلُ التنسيقَ و التنظيمَ و وحدةَ الصفِّ؛ الصفِّ الذي يمثّلُ المجتمعَ المنسجِمَ المتناغمَ القويَّ بجميع مفاصله رأساً و جسداً.
كما أرادَ “حافظ أسد” من هذا الاغتيالِ الاجتماعيّ الجماعيّ -مع دقة التعبير- و التمثيلِ بجثث أعلامِ البلد و وجهائِها و وطنييها عبرَ منظومتِه الإجراميّة إرسالَ رسائلَ رعبٍ و قهرٍ واضحةٍ لجميع أفرادِ المجتمعِ الحمويّ -و السوريّ عموماً- مفادُها: إنّ رجالَ مدينتِكم و قاماتِها العلميةِ و المجتمعيةِ قد نِلنا منها؛ فقتلناها، و مثَّلْنا بجثثِ أعلامكم؛ فلم تنفعْهم وجاهتُهم و لا مكانتُهم العلميةُ أمامَ سطوةِ إجرامنا و سواد أحقادِنا، فلا احترامَ و لا قدرَ عندنا لأحد!
– و قد رأينا كيف قام أسد الابن مع بداية الثورة السورية عام [2011م] بالبحث عن شخصياتٍ و وجهاء مؤثّرين في الحراك السلميّ منذُ بدايته و مخاطبتِهم عبرَ أجهزةِ مخابراتِه بترتيبِ لقاءاتٍ معهم و استقبالِهم في قصرِه كوفود تمثلُ المحافظات السورية -كما كان يروّج عبر إعلامه- في محاولةٍ لمعرفة المؤثّرين الحقيقيين في الثورة السوريّة و الذين يشكّلون مرجعيةً لها، ليعمدَ لاحقاً إلى استقطابهم؛ و إنْ لم ينجحْ يسعى لاغتيالهم بالموت أو الاعتقال أو التغييب القسري و هذا ما حدثَ فعلاً لعددٍ ممّـن التقى بِـ “بشار أسد”..
➖ أمّا عن سببِ تدميرِه للأحياءِ التاريخيّة العريقةِ مع قدرته على دخولِ المدينةِ فهو لتفكيكِ النسيج الاجتماعيّ الحمويّ و تغييره ديمُغرافياً؛ و الذي يُشكلُ نقطةَ قوةِ المجتمعِ -أيّ مجتمـع-، فمَن لم يمتْ بالقصفِ و نجا من الموت اضطرَ لترك الحي بعد تدميرِه إذ لم يعد صالحاً للسكنِ، فتوجّه إلى أطرافِ المدينةِ ليسكنَها فارّاً من جحيم الموتِ و آلامِ قهرِ الذكرياتِ؛ و قد سُحقَ الحيُّ بأهله و أقربائه و جيرانه و أحبابه و خِلّانه. لذلك ترى الكثيرَ من أهالي الأحياء المدمّرة الناجين قد سكنوا الضواحيَ و القرى القريبة كـ ( حي التعاونية و حي كازو و حي القصور و قرية عين الباد و المحطة و جنوب الثكنة ….)، و منهم مَن غادرَ البلدَ كليّاً ليهربَ من ذكرياتِ الألم بعد أنْ أمسى وحيداً بلا عائلة فكان الناجيَ -و الناجية- الوحيدَ من أسرتـه.
فنقطة القوة في النسيج الاجتماعي تتمثلُ بإقامةِ أفرادِ العائلةِ الواحدةِ في حيّ واحد قريبين من بعضهم؛ حتى أنّكَ كنتَ ترى زقاقاً كاملاً لعائلة آل فلان، فالعائلة كلُّها متماسكةُ الأواصرِ متينةُ الوشائج؛ لها كبيرٌ يوجِّهُها بحكمة و رأي يسمى (عميد العائلة)، و عوائلُ الحيّ مجتمعةً تشكِّلُ نسيجَ الحيّ الاجتماعيّ الذي يوجِّهه و يشرفُ عليه وجهاءُ العوائل و نخبها الفكريّة و العلمية و الوطنية .. لذلك كانَ النسيجُ الاجتماعيُّ متيناً قويّاً بحكمةِ الوجهاء و الكبار.
و بكلمة مختصرة جامعة :
لقد دُمّرتِ الأحياءُ لإحداثِ التغيير الديمُغرافي في المدينةَ، و تمزيقِ شملِ العوائل الحمويّة، و تفكيك عُرى قوتِها. لذلك بعد أحداث الـ [1982م] قدّمت إذاعة “مونتِ كارلو” الفرنسية الناطقة بالعربية تقريراً عن سبب تدمير “حافظ أسد” أحياء مدينة حماة العريقة القديمة فخرجتْ بالنتيجة الآتية التي حصرتْها في تفكيك النسيجِ الاجتماعيّ، و إحداث التغيير الديمُغرافيّ في المدينة.
و قد قامَت حكومةُ أسد لاحقاً بفتحِ شوارعَ و بناءِ أبراج في أماكنِ الأحياءِ المدمّرةِ على رؤوس أصحابها منها فندق (أفاميا الشام) الذي شُيّدَ على أجسادِ أهالي أحياء “الزنبقي و العصيدة و الشمالية و بين الحيرَين”؛ و أثناء عمليات الحفر لأساسات المبنى لصب الترسانة الإسمنتية ظهرتْ عدة مقابرَ جماعيّة من شهداء تلك الأحياء المدمرة، ففندق “أفاميا الشام” مشيدٌ على جماجمِ الشهداءِ و أجسادِ الأطفال و النساء و الشيوخ.
➖ و بمقابلةٍ مع الثورة السورية [2011م] نرى المخطّطَ ذاتَه يكرّره المجرم “بشار أسد” بمساعٍ إجراميّة من إيران و روسيا و عدد من الدول حيث أنزلَ حِممَ براميلـه و حاوياته المتفجرة فضلاً عن الصواريخ البالستية فسحقَ قرى بأكملهـا و عوائلهـا، تمهيـداً لتنفيـذ المخطط الديمغرافي بالتهجير بدءاً من الزبداني و مضايا مروراً بداريا و مدن غوطة دمشق و قراها، وصولاً لمدينة حمصَ و أريافهـا، فقرى و بلدات ريف حمـاة الشماليّ فإدلب الجنوبيّ.
يضافُ إلى ما سبق الأسلوب الأخبث من أساليب التغيير الديمغرافي الذي لم يعدْ خافياً على أحدٍ ؛ فضلاً عن المراقبين المتابعين لمجريات الثورة السورية حيثُ سعى نظام “أسد” بتوجيه و تخطيط مباشر من إيــران الغازية لتفعيل مشروع “التغيير الديمُغرافي “، هذا المشروع الذي يستهدف تغيير النسيج الاجتماعيّ السكانيّ لأهل البلد الأصليين على امتداد الأرض السوريّة في سبيل إحكام سيطرته على المناطق التي تقع سياسياً و إدارياً تحت نفوذه كمرحلة أولى ، و التوسُّع لمناطق أخرى انطلاقاً من مناطق نفوذه كمرحلة ثانية، فقامُ نظام أسد و من خلفه إيران المخطِّـطـة بتنفيذ هذا المخطط جِدّيّاً منذ الأيام الأولى للثورة السورية [2011مـ] و بخطوات متسارعة كانت البداية مع حمص المدينة ثم منطقة القصير في ريف حمص فمناطق الجنوب السوري الزبداني ثمّ داريا فالهامة و غيرها من المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق ناهيك عن جرائم الإبادة في حلب ؛ حيث يعمدون إلى إفراغ المناطق من سكانها الأصليين بشتى الوسائل (القتل – الاعتقال – التهجير القسري – القصف و التدمير …) و استجلاب سكان آخرين من خارج النسيج السكاني الأصلي و توطينهم، و استصدار وثائقَ شخصية رسميّة تثبت -زوراً- أنهم سكان المناطق المحليون، و بموجب هذه الوثائق الشخصية تخوّلهم استصدار وثائق و صكوك تمليك عقاري. و قد قامت إيران حقيقة و على امتداد أعوامِ الثورة السورية بالإتيان بأعداد كبيرة من شيعة إيـران و الـعـراق لمناطق العاصمة دمشق و محيطها و حمص لتوطينهم؛ بهـدفٌ تغيير النسيج الاجتماعي بنسيج اجتماعي جديد يحقق لهم حيّزاً كبيراً من الولاء و الارتكاز الأمني و السياسيّ، هذا المخطط الفارسيّ الذي انكسـر مع فتـح حمـاة [5 – 12 – 2024مـ] و تلاشى بفتح دمشق و هروب الطاغيـة [8 – 12 – 2024مـ] .
▪️وأخيراً إنّ جرائم آل الوحش الحاقدة التي زُرعت في سورية يجبُ أنْ تأخذَ طريقَها نحو التوثيق و التحليل معاً، توثيقِ الجرائم كاملةً توثيقاً منهجياً، و تحليلِها تحليلاً تاريخياً و فكريّاً، و دراسةِ مآلات تلك الجرائم على تركيبة المجتمعِ السوريّ و إنسانِه على مدارِ ما يزيدُ على النصفِ قرنٍ من تاريخ سورية. جرائمُ متنوعةٌ أوسعُ من أن تُحصى؛ المخابراتية الأمنية منها و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الأخلاقيـة القِيميّة و التعليمية التربوية و التاريخيـة و الثرواتية… لأنّه حتى الآن لم يتم وضعُ مشروعٍ منهجيّ بفكـر وطنيّ أصيل لتوثيقِ و تحليل تلك الحقبة من تاريخ سورية التي حوّلها مجرمو العصر لمزرعة لهم و لمجرميهم، و ما صدرَ و يصدرُ من مقالات و أبحاثٍ و مؤلفات لم ترقَ لدرجة التوثيق و التحليل التاريخيّ بأسلوبه و ضوابطه العلميّة المنهجية.
… تقبّلَ اللهُ شهداء الثمانينيات و شهداء الثورة السورية قاطبةً و أعلى قدرَهم، و نحمـده سبحانـه أنْ أكرمَ سوريةَ بهـذا الفتـح الأسنى و قد تطهّرتِ البلادُ من أسد و وحوش عائلته و عصاباتِه و مجرميه، و كلنـا ثقـةٌ بعـودة سوريةَ قريبـاً لتأخذَ حضورَهـا الإنسانيّ و القِيميّ و العلميّ المؤثّـر على مستوى العالَـم؛ حضوراً بحجم كفاءاتهـا و عقـولِهـا و أصالـةِ تاريخهـا.
➖➖➖➖
هوامش:
[1] • حيثُ جرى تفجيرُ الجامع الأعلى الكبير بعد أنْ تمّ تفخيخُه بالألغام البحريـة لأنّ الألغام التقليدية لا تجدِ مع حجم الكتل الحجرية الضخمة المؤسِّسة لقواعدِ الجامع و أعمدتـه الذي يُعتبر أقدمَ مساجدِ الإسـلام، حيثُ نُسفَ بكاملـه فأحدثَ تفجيرُه زلزالاً أرعبَ سكّانَ الأحياء الذين كانوا منعزلين في منازلهم لا يجرؤون على الخروج بعد المجارز التي صنعتَها مليشيات المجرمين أسد في ظل منع التجوُّل كليّاً، حيثُ تمّ ذلك قبيل بزوغِ الفجر، و قبلَ التفجير بزمن قليل جاذفَ عسكريّ حلبيّ يؤدي الخدمةَ الإلزامية و تجوّلَ داخلَ الأزقة و شوارع الأحياء المجاورة لجامع الكبير منادياً بلهجته الحلبية محذّراً الأهالي المدنيين: “افتحوا النوافذَ و الأبوابَ.. سيفجّرون جامع الكبير و ادخلوا إلى الأماكن الداخلية من البيوت…”و حدثَ التفجير بعد دقائق فما أبقى باباً و لا نافذة في مكانها في كافة منازل الأحياء المجاورة للجامع، و تطايرت كتلُ الأحجار الأثرية لمسافات كبيرة من هول ضغط الانفجار، و قد توجّهَ أغلبُ سكّان الأحياء و تحصّنوا في الحمامات الداخلية في البيوت باعتبارها أكثر أماناً من الغرف الخارجية للمنازل..
• و بعد تفجير الجامع التاريخيّ الأثريّ الشاهد على تاريخ الفتح الإسلاميّ لحماة التي دخلها القائد “أبو عبيدة عامر بن الجرّاح ” صُلحاً عام [15هـ] الذي يقعُ في حي المدينة القديم انتشى المجرمون نشوةً و علا صياحُهم و صراخُهم؛ و هم سكارى مخمورون، و أثناء انسحابهم مرت عصابات “رفعت” أمام الكنيسة في الشارع المقابل لجامع الكبير (كنيسة الروم الأرثوذكس) من الحي ذاته حيث كان حياً كبيراً يقطنه المسلمون و النصارى معاً و يمارسون شعائرَهـم؛ و هنا اجتهد أحد الضباط المجرمين و هو في حالة نشوة السُّكر و الخمرِ فأمرَ عناصرَه بتفخيخ الكنيسة و تفجيرهـا كذلك مع أنّ الأوامرَ كانت محدّدةً بتفجير الجامع الأعلى الكبير فقط!!
و هناك روايات تنقلُ أنّ الفنان الإيطاليّ الذي قام بزخرفة قبة الكنيسة و أعمدتهـا لمدة تسعة شهور في ظروف عملٍ صعبة جداً؛ حيث نفّذ أغلب زخارفه مستلقياً على ظهره و هو مُعَلّق بحاملةٍ متنقلة ليتمكّن من زوايا الزخرفة في القبة.. عندما وصله خبر تفجير الكنيسة و هو في إيطاليا صعقَ للخبر و مات من فوره!
• و قد تم إعادة بناء الجامع الأعلى الكبير بهمة و جهود أهل الفضل عام [1990 م] وفق مخططه الأساسي -مع تعديلات بسيطة- و بقسم كبير من أحجاره التي جرى جمعُها من الأحياء و أكوامِ الأنقاض و استمر عملية بنائها ما يقارب العشرة أعوام. كما تمت إعادة بناء الكنيسة قبله كذلك.
[2] •لقد كان في حماة مكتبات قديمـة كثيرة؛ منها المكتباتُ العامة كمكتبات المركز الثقافيّ القديم و المتحف القديم التي تضم وثائقَ و مخطوطات وَ مكتبات المدارس و المعاهد الشرعية، و مكتبات خاصة تعود ملكيتُهـا لأعلامِ المدينة و علمائهـا و أعيانهـا تضمُّ نفائسَ من الكتب القديمة ذات الطبعات النادرة القديمة فضلاً عن المخطوطات..
حيث قام المجرم “رفعت” بسرقة آثار و مكتبات المدينة العامة و الخاصة و مخطوطاتهـا و تهريبهـا لخارج سورية و بيعهـا بأثمان باهظة لمراكز استشراق غربيّة أوربيـة و غيرهـا..
• و من المفيد ذكرُه تلك الحادثة التي تُوثّقُ اهتمام ذلك الجيل من الحمويين بالكتب و المكتبات، فمع نهاية التسعينيات من القرن الماضي حدثت في حماة حركةُ بناءٍ للعقارات القديمة لتعويض النقصِ في البيوت بعد أنْ كان البناء مجمّداً ممنوعـاً… حدثَ أنّ أحد متعهّدي البناء اشترى منزلاً قديماً في حي من أحياء المدينة الجنوبية الغربية (حي البَيَاض) و بدأ بهدمِه ليُشيِّدَ بناءَه الطابقيّ الجديد، و عند حفرِ الأساسات لصبِّ الترسانةِ الإسمنتية اصطدمت آلاتُ الحفر بصفيح معدنيّ فتوقفوا، محوّلينَ عملية الحفرِ لتصبح يدوياً؛ و إذ بهذا الصفيح المعدنيّ يكونُ غطاءَ برميلٍ معدني كبير قد تمّ حفرُ مكانه عميقاً في الأرض من قِبلِ أصحابِ المنزل الأصليين خلال مجازرِ حمـاة، و أنزلوا البرميلَ بكامله و غيّبوه في الأرض، و بعد إخراجِه و فتحِه من قبلِ متعهِّدِ البناءِ الجديدِ وجدَه محفوظاً بطبقية من النايلون السميك؛ و مملوءاً بكتبٍ قديمـةٍ نفيسة و مخطوطات كان قد حفظَها صاحبُ البيت الأصلي و الذي يتضحُ أنّه كانَ من أعيان العلم؛ و ذلك خوفاً من سرقتهـا أو إحراقهـا من جهة مجرمي أسد و عصاباته!!
و قد تكررت أمثال هذه الحوادث كثيراً في عدد من بيوت حماة القديمة.
• و لم يقف إجرام أسد و عصاباته حتى بعد أحداث [1982]؛ فتابعوا إجرامهم بحقّ تراثِ المدينة و تاريخها و علومهـا، فما سلمَ من آثارِ المدينة و علومهـا في المجازر السابقة تابعَه مجرمو أسد بهدوء بعد المجازر، حيثُ أقدمَ مدير تربية حماة بعد الأحداث مباشرة المجرم الفاحش المدعو (رضا رجب -المنحدر من ريف حماة الغربيّ، قرية عنّاب و ينتمي للطائفة النصيرية المرشديّة-) أقدمَ على سحبِ كافة مكتبات المدارس و الثانويات العامة و الشرعية في حماة و التي تضم كتباً قديمةً بطبعاتٍ نادرةٍ غيرِ مكرّرة، و فرّغَ أربعةَ موظفين من مديرته جاعلاً لهم صالة خاصة في مبنى مديرية التربية في حماة للعمل على تصويرِ تلك الكتب النادرة ثمّ يرسلونها لأحد المكتبات التي تواطأت معه لتجليد النسخ المصوّرة غير الأصلية، ثمّ يقومُ بإرسال النسخ المصوَّرة إلى مكتبات المدارس، و يسرقُ الطبعات الأصلية النادرة و المخطوطات و يهرِّبونهـا لخارج سورية و يبعونهـا بأثمان باهظة لمراكز أبحاث و دراسات و استشراق غربية و غيرهـا… في صورةٍ من صورِ الإجرام بحقّ العلم و التاريخ و الآثار.