عندما تُذكَرُ مجزرةُ حماة تقفزُ مباشرةً إلى ذاكرةِ المُستذكِرين في المجالسِ و اللقاءاتِ و حتى المحاضرات الفكرية المجزرةُ الكبرى التي حدثتْ عام [1982م] ، غيرَ أنّ الذي غابَ -أو لا تتمّ الإشارة إليه إلّا نادراً- هو حدوثُ سلسلةٍ من المجازرِ الرهيبةِ سبقتِ المجزرةَ الكبرى على امتداد ثلاث سنوات تقدّمتْ عام [1982] .. فقد قامت مليشيات أسد الأب و أخيه المجرم الحاقد ( رفعت أسد ) بمجازر متعددة بدأها منذ عام [1980] و خلال عام [1981] حتى جاءت المجزرة الكبرى عام [1982] .
▪️ قـرارُ المجـزرةِ الكبرى :
– إنّ القرار الدمويّ بإنفاذِ مجزرة حماة الكبرى كان قد تمّ اتخاذُه فعليّاً صادراً عن المجرم “حافظ أسد” منذ عام [1980] و ليس عام [1982] كما هو شائعٌ بين عامة السوريين بل و حتى بين شريحةٍ واسعةٍ من الحمَويين أنفسِهم .
– حيثُ بدؤوا تنفيذَه بغطاءٍ دوليّ كامل وفق خطةِ إبادةٍ جماعيةٍ مدروسةٍ على مراحـل :
➖ المرحلةُ الأولى : استهدافُ وجهاءِ المدينة و أعيانِها و رجالِها و نُخبها العلميّة و الثقافية ، و مرجعياتِها المجتمعية و قد كان ذلك عام [1980] ، و لا أبالغُ إنْ قلتُ : إنّ هذا الحدث كان من أشدِّ الممارسات وقعاً و أعظمِها إجراماً إذ كانتِ البدايةُ بالمرجعيات العلمية و الفكرية و الاجتماعية !! -للفكرة تتمة في المحور الأخير-
➖ المرحلةُ الثانية : نزولُ فِرقِ و وحداتِ الجيش العسكرية و مليشيات سرايا المجرم “رفعت أسد” المعروفة بـ ( سرايا الدفاع ) و انتشارُهم في شوارع المدينة لإذلال الناس المارة ناشرين الرعب تحت وطأة الحقد الطائفي بالحديد و النار ، مع تطويقِ عدة أحياء من المدينة و ارتكاب جرائم عبر إعدامات ميدانية مركِّزين بصورةٍ رئيسةٍ على شبابها و رجالها ؛ فكانت مجزرة “حي بستان السعادة” وَ مجزرة “الملعب البلدي” وَ مجزرة “حي وادي الحوارنة” و غيرها من الأحياء ، و كان ذلك عام [1981] .
➖ المرحلةُ الثالثة : المجزرة الكبرى في الثاني من شهر شباط [1982] و التي استمرتْ لـ سبعةٍ و عشرين [27] يوماً من الإبادة الجماعية لشعبٍ بأكمله – برجاله و نسائه و شِيبه و شبابه و أطفاله – بقصفِ الأحياء و المنازل و الدور و تدميرها على رؤوس ساكنيها ، و ارتكابِ الجرائم و التفجيرات و تدمير المآذن و الجوامع ، و إفناء الشباب عبر الإعدامات الميدانية لعشرات الآلاف من شباب المدينة و رجالها ؛ فلم ينجُ إلّا مَن قُدّرتْ له الحياةُ ليكونَ شاهداً على جرائمَ تُظهرُ عظيمَ حجمِ ما تختزنُه هذه النفوسُ الحاقدةُ من قذارةِ الإجرام و دمويةِ الوحوشِ و خِسّةِ الطبع ..
• و ممّا يثبتُ أنّ القرارَ قد صدرَ حقيقةً بسحقِ مدينة حماة منذ عام [1980] – كما أسلفتُ – ورودُ تسريباتٍ قاءَها المجرم “رفعت أسد” و التي كان يردِّدُها قبل سنوات من ارتكاب المجزرة الكبرى [1982] ، منها قولـه :
(( سأدمِّرُ مدينةَ حماة و أحوِّلها إلى حديقة عامة … ))
و قولُه أيضاً : (( سأجعلُ المؤرِّخين يكتبون : أنّه كان في سورية مدينة اسمُها حماة … ))
و كذلك قوله : (( سأجعلُ حماة عبرةً للشعبِ السوريّ كلّه ))!!!
▪️▪️ المجازرُ التي سبقت المجزرة الكبرى :
• إذاً لقد بقيتْ حماة تحت مقصلة المجازرِ و الحقد الطائفيّ الدفين على مر ثلاثِ سنوات متعاقبةٍ حتى تُوِّجَ المخطط بالمجزرةِ الكبرى عام [1982م] ، فما هي أبرز المجازر التي سبقتِ المجزرة الكبرى و مهدتْ لاستكمال مخطط الإبادة :
➖ المجزرةُ الأولى : مجزرة شهر نيسان من عام [1980م] و أعتقدُ جازماً أنّ هذه المجزرة هي المجزرة الأهمُّ مجتمعياً من بين سلسلة المجازر اللاحقة و السابقة -على دمويتها- لأسباب وجيهةٍ سأذكرها في المحور الأخير من هذا المقال ، حيثُ كانت سمومُ الأحقادِ الدمويّةِ في هذه المجزرةِ الدقيقةِ الاختيارِ و المدروسةِ بعنايةٍ و ترتيبٍ و بضوءٍ أخضرَ دوليٍّ للمجرمَينِ حافظ و أخيه -كما بقية المجازر- مصوّبةً نحو وجهاء المجتمعِ و قاماتِه الفكرية و العلميّة و المرجعيّة فاعتقلوا وجهاءَ البلد و أعيانَها و رجالَها من أماكن عملهم أو منازلهم و اقتادوهم لمسالخهم السوداء الحاقدة و عذَّبوهم حتى الموت اغتيالاً ، ثمّ رموا جثثَهم في شوارع مدينة حماة و أزقتها على مرأى الناس و العامّة ، أذكرُ منهم :
– الشهيد الطبيب الدكتور عمر الشيشكلي : نقيبُ أطباءِ العيون في سورية و رئيس جمعيّة أطباء العيون ، حيثُ اعتقلوه من داره فجراً و اقتادوه و عذّبوه فسمَلُوا عينيه و قطَّعوا أوصال جسده حتى الموت -رحمه الله- ، ثمّ رموا بجثته التي عُثرَ عليها على طريق محردة إلى الغرب من حماة فاستشهد عن عمرٍِ لم يتجاوزِ الخامسة و الأربعين [45] عاماً – رحمه الله – ، ثمّ جاؤوا بكل خِسةٍ فسرقوا مقتنياتِ عيادته الطبية و هدموها !!
– الشهيد الطبيب الدكتور عبد القادر قندقجي : جرّاح العظمية الأشهر في زمانه ، حيثُ اعتقلوه كذلك من مستشفاه الخاص ” مستشفى الحكمة” و عادوا بجثته هامدة بعد اغتياله مدفوعين بحقدهم الأسود على كوادرِ البلد و نُخبها و عقولِها .
– الشهيد المهندس خضر الشيشكليّ : زعيمُ الكتلة الوطنية و صاحب بيت الأمة ، وجيهُ حماةَ الأول في عصره ، و هو عمُّ “الدكتور الشهيد عمر الشيشكليّ” ، و اللافت أنّ عمرَ “المهندس خضر” يوم اغتياله كان قد ناهزَ الثانيةَ و الثمانين [82] عاماً ، فلم تشفعْ له شَيبتُه و تقدّمُ عُمُرِه من إحراقه بمادة “الأسيد” الكيميائية ؛ ثمّ هدموا منزلَه بعد سرقة كافة مقتنياته !!!
– الشهيد الدكتور طاهر حداد
– الشهيد الدكتور حسين خلوف : طبيب الأسنان الذي تمّ اعتقاله من عيادِته في حي حاضر الكبير .
– الشهيد الوجيه السيد أحمد قصاب باشي مع عدد من وجهاء عائلته المقتدرة مالياً و ذات الحضور المجتمعيّ يومئذٍ ، حيثُ وُجدت جثة السيد أحمد في منطقة “جسر باب الهوى” و قد قُطعت أصابُعه و قُلعت أظافره ، و قد استشهدَ و له من العمرِ يومها قرابة الخامسة و الخمسين [55] عاماً.
– الشهيد الوجيه أبو إياد الأعوج : المنحدرِ من عائلة حمويّةٍ أصيلة و التي تعتبرُ من أقدم عوائل مدينة حماة كما يذكرُ المؤرِّخون ..
• و هنا أجدني مضطراً عندَ بيانِ التسلسلِ التاريخيّ لجرائم أسد و داعميه إلى إضاءة الحقيقةِ التاريخية الآتية :
(( إنّ جرائمَ أسد الأب و أخيه المجرم رفعت لم تقتصر عام [1980] على مدينة حماة فحسب ؛ بلِ امتدت لتشملَ المجازرَ التالية من العام ذاته )) :
– مجزرة جسر الشغور في شهر آذار .
– مجزرة قرية كنصفرة بجبل الزاوية من ريف إدلب الجنوبي في شهر آذار .
– مجزرة سجن تدمر في شهر حزيران .
– مجزرة تدمر النسائية في كانون الأول و التي قُتلت فيها أمهاتُ المعتقلين و المطلوبين و زوجاتُهم و أخواتُهم -عليهنّ رحماتُ اللّه- .
– مجازر حلب : و هي مجزرة سوق الأحد في شهر تموز ، و مجزرَتا حي المشارقة يوم العيد وَ مجزرة حي بستان القصر في شهر آب .
– مجزرة قرية سرمدا في ريف إدلب الشماليّ في شهر تموز .
➖ مجزرة حماة الثانية : و التي تمتْ في العام التالي للمجزرة الأولى أي عام [1981 م] من شهر كانون الأول و استمرت ثمانية أيام ، و هي في الحقيقةِ سلسلةُ مجازرَ و ليست مجزرةً واحدةً ، حيثُ قامت وحدات من القوات الخاصة و الجيش و اللواء 47 و سرايا المجرم رفعت بإعدام ما يزيد على الـ 335 شاباً من الذكور الشباب حصراً في حي “بستان السعادة وسط مدينة حماة” وحدها عدا عن الجرحى الذين تجاوزَ عددُهم الألفَ [1000] جريح و ذلك برصاص مجرمي مليشيا القوات الخاصة و اللواء 47 ، و قد كان ذلك قبل صلاة يوم الجمعة من ذلك الشهر حيثُ طرقَ المجرِمون الأبوابَ و أخرجوا جميعَ شبابِ الحي طالبين هواياتهم الشخصية – و بعضهم كان قد أنهى استحمامَه لتوّه استعداداً لصلاة الجمعة – و اقتادهم بالبنادق إلى محيط جامع ( نور الدين الشهيد – النوريّ ) و أداروا وجههم إلى جدران الجامع الخارجيةِ و فتحوا نيران رشاشاتهم و بنادقهم رشّاً دون تمييزٍ على الشباب جميعاً ، و عندما سمعَ أهلُ الحيّ الرصاص هبّوا مذعورين من منازلهم لرؤية أبنائهم فكان كلُّ مَنْ وصلَ من الآباء قبل مغادرة مليشيات الحقد لمكان الجريمةِ يُصفُّونَه رشّاً بدم بارد فوق جثة ابنه الشهيد ، منهم الشهيد ( ص.ب ) و والدُه حيث قَتلوا الأبَ و ابنَه معاً !!! و حسب متابعتي أكدُ أجزمُ أنه لم ينجُ من مجزرة “حي بستان السعادة” -أو بستان التعاسة كما صار يُسمّى لاحقاً بين الحمويين- ممن أُخرجوا للإعدام في محيط جامع النوري إلا شابّ واحد هو المدعو ( ق ) و قد التقيتُه مرات و شرح لي تفاصيلَ عن هول تلك الجريمة و كيف نجا – لا مجال لذكرها الآن لنبقى في سياق مقالنا – .
كما قامت مليشيات سرايا الدفاع من العام ذاته [1981] بالتضييق على الناس و ضربهم في الشوارع بالعصي و الكرابيج و إرغامهم للسجود لصور حافظ ، بل وصل بهم الأمر لتفجير ما يزيد على العشرين [20] منزلاً لمجرد أي وشاية خلال شهر كانون الأول من ذلك العام … و قد ارتكبوا مجازرَ مؤلمةٍ في أحياء ( وادي الحوارنة و الملعب البلديّ و سوق الشجرة … و غيرها ) مستهدفين بصورة رئيسة الشباب المتعلِّم و أصحابِ الشهادات الأكاديمية .
➖ المجزرة الشهيرةُ الكبرى التي حدثت عام [1982] و التي لاتزال ذكرياتُها المؤلمة ماثلةً في ذاكرة الحمويين الذين درجوا على تسميتها بـ ( أحداث الثمانينات أو الأحداث ) ، فلا يوجدُ بيتٌ في حماة سَلِمَ من أحقادهم حيثُ أصدرَ حافظ المجرم أوامرَ باستباحةِ المدينةِ استباحةً مطلقةً و إبادتها عن آخرها و الحديثُ عنها يطول و يطول حتى أنهم أحرقوا الناسَ أحياءً في سابقةٍ خطيرة من الدموية الإجرامية ، و بقيتْ تبعاتها لعشرِ سنوات لاحقةٍ بعد انسحاب المليشيات من المدينة ؛ حيثُ بقيَ المجرم “يحيى زيدان – رئيس المخابرات العسكرية في حماة ” يمارسُ إجرامَه على المعتقلين الحمويين خلال حملات التعذيب ثمّ يقوم برمي جثث الشهداء المعتقلين الذين قضَوا تعذيياً ليلاً على باب المستشفى الوطنيّ في “حي المساكن – جنوب المدينة” ، و قد كان المجرم زيدان هذا مطلقَ اليد في حماة بعد مجزرة [1982] بتفويضٍ كامل مفتوح من رأس الإجرام حافظ أسد ؛ حتى أنه كان يُوقّع و يختم أوامرَه المخابراتية باسم ( ملك حماة ) في صورة من صور الغطرسة و الاستكبار .
▪️▪️▪️ قراءةٌ في حقيقةِ المجزرة :
واهمٌ مَن يعتقد أنّ جرائمَ مجازر الثمانينيات في حماة و غيرها في حلب و جبل الزاوية و جسر الشغور و دمشق و حتى اللاذقية جاءت هكذا عفْواً دونَ دراسةٍ و تخطيط و تأييدٍ دوليّ ؛ لكن ما يعنيني الآن حتى أبقى في سياق فكرة المقال في هذا المحور تحديداً -و الذي فيه عصارة جوهر الفكرة – هو تحليلُ مراحلِ المجزرة التي استمرت على امتداد سنواتٍ ثلاث ، لأطرح التساؤلات المنطقية الآتية :
– لماذا بدأت المجزة في عام [1980] و تابعَها بسلسلة مجازر في العام التالي الذي سبقَ المجزرة [1981] ، لِيختمَها بمجزرة الإبادة الجماعية الكبرى عام [1982] ؟!!
– أمَا كان بإمكانِ مجرمي أسد و داعميه من الانقضاض مباشرةً بمجزرةِ إبادةٍ جماعيّةٍ كبرى دون “مطمطةٍ” في الوقت و السنوات ، فيُنهي الأمر و يبيد الشعب و يسلب و ينهب و يحرق و يمزِّق نسيجَ المجتمع …؟!
– لماذا قامت راجماتُ صواريخ أسد و طائراته و ألوية المدفعية بتدمير الأحياء التاريخية العريقة دماراً تاماً كأحياء “الكيلانية و الزنبقي و العصيدة و الأميرية و سوق الشجرة و بين الحيرَين و البارودية …..” طالما أنه يستطيعُ دخولَ المدينة بأرتاله و قد كانت له جرائم و تطويقات قبل المجزرة الكبرى -كما أوضحتُ أعلاه- ؟!
• الجواب باختصار :
➖ كانت خطةُ الإبادة مدروسةً -كما أسلفتُ- فبدأها بالخطوة الأهم الأصعب و هي البحثُ عن مرجعياتِ المجتمعِ الحمَويّ الاجتماعيّة و العلمية و الفكريّة و الدينية و جميع الشخصيات الاعتبارية الوجاهيّة و القامات الوطنيّة و رؤوس و أعمدة العوائل الأصيلة ، فاغتالوها و نكّلوا بها و أظهروا طوامّ أحقادِهم في أجسادِ و نفوس رجال المدينة و قاماتِها الوطنيّة ، لأنّ القضاء على المرجعياتِ الموجِّهةِ لأي مجتمعٍ سيبدّدُ القرارَ و يزيلُ التنسيقَ و التنظيم و وحدة الصفِّ … الصفِّ الذي يمثّلُ المجتمعَ المنسجِمَ المتناغمَ القويَّ بجميع مفاصله رأساً و جسداً ..
كما أرادَ حافظ أسد من هذا الاغتيالِ الاجتماعيّ -إنْ صحَّ التعبير- و التمثيلِ بجثث أعلامِ البلد و وجهائها و وطنييها عبر منظومتِه الإجرامية إرسالَ رسائلَ رعبٍ و قهرٍ واضحةٍ لجميع أفرادِ المجتمعِ الحمويّ -و السوريّ عموماً- مفادُها : إنّ رجالَ مدينتكم و قاماتِها العلميةِ و المجتمعيةِ قد نلنا منها فقتلناها و مثَّلْنا بجثثِ أعلامكم ؛ فلم تنفعْهم وجاهتهم و لا مكانتهم العلمية أمامَ سطوةِ إجرامنا و سواد أحقادِنا ؛ فلا احترامَ و لا قدر عندنا لأحد .
– و قد رأينا كيف قام أسد الابن مع بداية الثورة السورية عام [2011م] بالبحث عن شخصياتٍ و وجهاء مؤثّرين في الحراك السلميّ منذُ بدايته و مخاطبتهم عبر أجهزة مخابراته بترتيب لقاءات معهم و استقبالهم في قصره كوفود تمثلُ المحافظات السورية -كما كان يروّج عبر إعلامه- في محاولة لمعرفة المؤثّرين الحقيقيين في الثورة السوريّة و الذين يشكّلون مرجعيةً لها ، ليعمدَ لاحقاً إلى استقطابهم و إنْ لم ينجح يسعى لاغتيالهم بالموت أو الاعتقال أو التغييب القسري و هذا ما حدثَ فعلاً .
➖ أمّا عن سببِ تدميره للأحياء العريقةِ رغم قدرته على دخول المدينة فهو لتفكيكِ النسيج الاجتماعيّ الحمويّ و تغييره ديمُغرافياً ؛ و الذي يُشكلُ نقطةَ قوةِ المجتمعِ ، فمَن لم يمت بالقصف و نجا من الموت اضطرَ لترك الحي بعد تدميره إذ لم يعد صالحاً للسكن فتوجّه إلى أطرافِ المدينةِ ليسكنها فارّاً من جحيم الموت و آلامِ قهرِ الذكرياتِ و قد سُحقَ الحيُّ بأهله و أقربائه و جيرانه و أحبابه و خِلّانه ، لذلك ترى الكثيرَ من أهالي الأحياء المدمّرة الناجين قد سكنوا الضواحي و القرى القريبة كـ ( حي التعاونية و حي كازو و حي القصور و قرية عين الباد و المحطة و جنوب الثكنة …. )
فنقطة القوة في النسيج الاجتماعي تتمثلُ بإقامةِ أفرادِ العائلةِ الواحدةِ في حيّ واحد قريبين من بعضهم حتى أنّكَ كنتَ ترى زقاقاً كاملاً لعائلة آل فلان ، فالعائلة كلها متماسكةُ الأواصر متينةُ الوشائج ؛ لها كبيرٌ يوجهها بحكمة و رأي يسمى ( عميد العائلة ) ، و عوائلُ الحيّ مجتمعةً تشكلُ نسيجَ الحي الاجتماعيّ الذي يوجِّهه و يشرفُ عليه وجهاءُ العوائل و نخبها الفكريّة و العلمية و الوطنية .. لذلك كان النسيجُ الاجتماعيُّ متيناً قوياً بحكمةِ الوجهاء و الكبار ..
و بكلمة مختصرة جامعة :
لقد دُمّرتِ الأحياءُ لإحداثِ التغيير الديمُغرافي في المدينة ؛ و تمزيقِ شملِ العوائل الحمويّة و تفكيك عرى قوتِها ، لذلك بعد أحداث الـ [1982م] قدّمت إذاعة “مونتِ كارلو” الفرنسية الناطقة بالعربية تقريراً عن سبب تدمير حافظ أسد أحياء مدينة حماة العريقة القديمة فخرجتْ بالنتيجة الآتية التي حصرتْها في تفكيك النسيج الاجتماعيّ و إحداث التغيير الديمُغرافيّ في المدينة .
و قد قامَت حكومةُ أسد لاحقاً بفتحِ شوارعَ و بناءِ أبراج في أماكن الأحياء المدمرة على رؤوس أصحابها منها فندق ( أفاميا الشام ) الذي شُيّدَ على أجسادِ أهالي أحياء “الزنبقي و العصيدة و الشمالية و بين الحيرَين” ؛ و أثناء عمليات الحفر لأساسات المبنى لصب الترسانة الإسمنتية ظهرتْ عدة مقابرَ جماعيّة من شهداء تلك الأحياء المدمرة ، ففندق “أفاميا الشام” مشيدٌ على جماجم الشهداء و أجسادِ الأطفال و النساء و الشيوخ .
وأخيراً إنّ جرائم آل الوحش الحاقدة التي زُرعت في سورية يجبُ أنْ تأخذَ طريقها نحو التوثيق و التحليل معاً ، توثيقِ الجرائم كاملةً توثيقاً منهجياً ، و تحليلِها تحليلاً تاريخياً و فكرياً و دراسةِ مآلات تلك الجرائم على تركيبة المجتمعِ السوريّ و إنسانِه على مدارِ ما يزيدُ على النصفِ قرنٍ من تاريخ سورية … جرائمُ متنوعةٌ أوسعُ من أن تُحصى المخابراتية الأمنية منها و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و التعليمية و الثرواتية … لأنّه حتى الآن لم يتم وضعُ مشروعٍ منهجيّ لتوثيق و تحليل تلك الحقبة من تاريخ سورية التي حوّلها مجرمو العصر لمزرعة لهم و لمجرميهم … و ما صدرَ و يصدرُ من مقالات و أبحاثٍ و مؤلفات لم ترقَ لدرجة التوثيق و التحليل التاريخيّ بأسلوبه و ضوابطه العلميّة المنهجية .
… تقبّلَ اللهُ شهداء حمـاة الثمانينيات و شهداء الثورة السورية قاطبةً و أعلى قدرَهم ، و عجّلَ فكَّ أسرِ معتقلينا ، و أكرمَنا بفرجٍ قريب و قد تطهّرتِ البلادُ من بشارَ و وحوش عائلته و عصاباتِه و مجرميه .