خطاب التحريض في سوريا: منبر الجريمة وشاهد العدالة المنتظرة

محمد أحمد الحربلية

لم يتوقف نظام الأسد البائد في الحقبة المريرة الماضية عن ارتكاب الجرائم، وقد رافقته في ذلك جوقة إعلامية تشيد بجرائمه وتمجّدها، وتدعوه إلى القضاء على “الإرهابيين”، والمقصود بهم كل من يقيم في المناطق المحررة.

ضمّت تلك الجوقة عددًا من المراسلين، والمذيعين، والصحفيين، والفنانين، وغيرهم، مما لا يتسع المقام لذكر أسمائهم. فالسوريون يعرفونهم جيدًا؛ فمنهم من ظهر في مقابلة يدعو “قوات الجيش الباسل” إلى تطهير البلاد من الإرهاب، أو كتب منشورًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي يدعو إلى تدمير مناطق الإرهابيين بالبراميل المتفجرة والكيماوي. بل إن منهم من أدى أغنية تحضّ على قصف “الإرهابيين”.

لمتابعة كل جديد اشترك في قناة صحيفة حبر على واتساب اضغط هنا

وقد اتضح أثر ذلك السلوك التحريضي في تشديد عزيمة قوات النظام وميليشياته على ارتكاب جرائمهم، حيث أوجد لهم المحرِّضون الذريعة عبر الترويج بأنها مناطق إرهابيين، مما شجع تلك القوات على الاستمرار في حملات القصف الممنهج وارتكاب المجازر بحق المدنيين طوال السنوات الماضية.

إن كل من سبق يمكن وصفهم قانونًا بأنهم “محرضون على ارتكاب جرائم الحرب”، حيث يعتبر القانون الدولي الجنائي أن كل من يشجع أو يدعو أو يدفع شخصًا آخر إلى ارتكاب الجريمة هو محرض ويتحمل المسؤولية الجنائية الشخصية عن ذلك. وكمثال على ذلك، فقد نصّت اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 على تجريم التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية، حتى لو لم تُرتكب الجريمة المحرَّض عليها.

كما تضمنت الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية الدولية الخاصة تجريم التحريض، وفقًا لما نصّت عليه المادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا لعام 1993، والمادة 6 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في رواندا لعام 1994. وقد اعتبرت المحكمتان أن كل من حرّض أو شجّع على ارتكاب جريمة حرب، أو جريمة ضد الإنسانية، أو الإبادة الجماعية يتحمل المسؤولية الجنائية.

اقرأ ايضاً: ماذا يعني إرسال بعثة أممية إلى سوريا؟

القانون الدولي الجنائي يعتبر التحريض جريمة خطيرة تهدد القيم الإنسانية والمصالح الأساسية للمجتمع الدولي. ولذلك، فقد جعل منها جريمة مستقلة قائمة بذاتها، أي أن السلوك التحريضي يُعدّ بحد ذاته جريمة حتى لو لم تقع الجريمة التي تم التحريض عليها. وبناءً عليه، فإن كل من قام بسلوك تحريضي من أبواق النظام البائد كالدعوة إلى القصف بالبراميل والكيماوي يُعتبر مسؤولًا جنائيًا، ويكفي تقديم الدليل إلى المحكمة لإثبات السلوك أو الخطاب التحريضي الذي قام به المُحرِّض.

تثبت جريمة التحريض بطرق عدة، منها وسائل الإعلام كالتلفاز، والإذاعة، والصحف، والمنشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولا داعي لإثبات أن تلك المقابلة أو المنشور التحريضي قد أدى فعليًا إلى القصف.

وقد جاءت السوابق القضائية للمحاكم الجنائية الدولية بأمثلة كثيرة حول التحريض على ارتكاب جرائم الحرب. فكانت محكمة نورمبرغ، التي شكلها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لمحاكمة النازيين، أولى المحاكم الجنائية التي جرّمت التحريض. فقد أدانت “يوليوس شترايخر”، أحد منظري الحزب النازي، وحكمت عليه بالإعدام عن خطاباته التحريضية الداعية إلى القتل.

كما أدانت محكمة رواندا العديد من المتهمين باستخدام وسائل الإعلام لبث خطاب الكراهية والتحريض على الإبادة الجماعية. وكان من ذلك إدانة المغني الرواندي “سيمون بيكيندي”، بعد اتهامه بالتحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية عن أدائه لأغنية مناهضة للتوتسي.

المحكمة ذاتها أدانت محرر صحيفة Kangura بسبب استخدامه الصحيفة للتحريض على الإبادة ضد التوتسي، وحكمت عليه بالسجن 35 عامًا.

أما المحكمة الجنائية الدولية في يوغوسلافيا فقد أدانت أحد المتهمين بجريمة التحريض استنادًا إلى خطاباته المحرّضة على الكروات، واعتبرت أن ذلك يدخل ضمن سياق الاضطهاد كجريمة ضد الإنسانية.

أما النية الجرمية لدى المحرِّض فتتجلى من خلال علمه بأن خطابه التحريضي سيؤدي إلى تعزيز النزعة الإجرامية لدى قوات النظام التي تقوم بالقصف، بحجة أن سكان تلك المناطق “إرهابيون”. ولا يشترط أن تنصرف نية التحريض ضد أشخاص محددين، وإنما ضد كل من يقيم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

ولذلك، يُفترض عند إنشاء محكمة جنائية خاصة بملاحقة مرتكبي الجرائم والانتهاكات في سوريا أن يتضمن قانون إنشاء المحكمة أو نظامها الأساسي نصًا يجرّم التحريض على ارتكاب تلك الجرائم، مع ضرورة اعتبار التحريض جريمة مستقلة بذاتها، أي لا تتوقف على وقوع الجريمة التي تم التحريض عليها. وهو ما يحول دون إفلات عدد كبير من المجرمين الذين حرّضوا على قتل الشعب السوري من العقاب.

إعلاميين النظام السوريالنظام السوريبشار الأسدجريمة التحريضسوريامحمد أحمد الحربلية